أحمد القديدى

قد يكرر المرء على أسماع قرائه عبارات الأسى الأعظم والحزن الأعمق ولا يفيدهم ذلك في شيء لأن العرب من أقصاهم إلى أدناهم يفوقون الكاتب أسى وحزنا على حرب الإبادة البطيئة في غزة وفي كل بيت لوعة وفي كل قلب حسرة. لكن الدرس الأقسى من هذه المحنة المبرمجة هو أن الأمة غسلت أيديها من ثقافة الكلام ومن تخدير اللسان ومن معسول البيان، وهي مطالبة اليوم بأن تضع أحداث غزة في سياقها التاريخي العربي الإسلامي. فهل لاحظتم يا قرائي الأعزاء بأننا بدأنا ننسى شيئا اسمه تحرير فلسطين ولا نتحدث سوى عن إيقاف الرصاص المسكوب! وأننا بدأنا نطالب بوقف المقاومة بدل أن نطالب بوقف الاحتلال وذلك حتى في بيانات جامعة الدول العربية وبعض الحكومات العربية!
هذه لحظة عربية تاريخية عجيبة! فقد انطوت صفحة من تاريخ الصوتيات وفتحت صفحات من واقع الوعي بفداحة المأساة! مأساة التشرذم العربي والفلسطيني أمام مؤامرات أعدائنا الموحدين، تماما كما كانوا موحدين سنة 1095م في كاتدرائية كليرمونت الفرنسية حين دعا البابا يوربان الثاني (الجد الإنجيلي والحقيقي للرئيس جورج دابليو بوش ولإيهود باراك) دعا جموع المتطرفين المسيحيين الأوروبيين إلى أول حرب صليبية ضد دار الإسلام وإلى احتلال بيت المقدس. فسارت الجيوش المسيحية المتعصبة إلى المشرق لتكسر شوكة الخلافة الإسلامية حين كانت هذه الخلافة تتحكم في نصف الأرض وتتصرف في معابر البحر الأبيض المتوسط بقوة التسامح الإسلامي وبنور الإيمان والعقل والعلم والاجتهاد. وكان الإسلام يشكل الخطر الأهم على مصالح البربرية الهمجية الأوروبية في ذلك العصر. نعم! كانت البربرية الأوروبية مواجهة للحضارة الإسلامية، حين كان التنوير مسلما والظلامية مسيحية. ويكفي أن نضرب مثال تقدم الطب لدينا وتخلفه بل انعدامه لدى الغرب، حين كتب الطبيب العالم إسحاق بن عمران (في القيروان وفي القرن الرابع هجري) كتابه (رسالة الميلنخوليا) ينصح فيها بعلاج المرضى النفسيين بالموسيقى في حين كان الأوروبيون يحرقون مرضاهم في الكنائس بدعوى تلبسهم بالشياطين!
واليوم تأتي همجية الرصاص المسكوب لتطمس التاريخ المكتوب، فلا فرق بين الحملة الصليبية الأولى عام 1095م والحملة الصهيونية الصليبية العاشرة عام 2009. فالصراع بين الإسلام والغرب مع الأسف لم تخمد ناره إلا لتضطرم من جديد. فالحملات الثماني الجائرة التي جهزها أعداؤنا منذ ألف عام تتغير شكلا وسلاحا وآلية وإيديولوجيا لكنها تستهدف وحدة الأمة وقوتها وتوقها للاستقلال. ثماني حملات استمرت قرنين من الزمن بدأت بنداء البابا يوربان الثاني وانتهت بتحرير صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس ومصرع الملك الفرنسي القديس لويس التاسع على مشارف قرطاج عام 1270م، أعقبتها حملة نابليون بونابرت على مصر والشام سنة 1798م وهي الحملة التاسعة والتي اندحرت بمصرع قائدها كليبر بعد عامين فقط في مصر على أيدي الشهيد البطل سليمان الحلبي وفرار بونابرت إلى باريس وشتات عسكره في المشرق. ثم حل زمن الاستخراب الأكبر والأطول الذي سميناه باسم أعدائنا أي الاستعمار! وانهزم المحتلون الدخلاء في القاهرة ودمشق والقدس وتونس والرباط والجزائر، ورفرفت رايات الأهلة والنجوم على الأمة المستقلة منذ الخمسينات ما عدا فلسطين!
بلى ما عدا فلسطين! لأن المهزومين الصليبيين والصهاينة في معركة الحضارة لم يقبلوا بالجلاء الحقيقي عن دار الإسلام، فأغمدوا في قلب الأمة خنجرا مسموما يسمى إسرائيل وانتقل العرب من حال الانتصار إلى حال الإنكسار، حتى أزفت ساعة الحملة العاشرة والتي بدأت سنة النكبة 1948 واستمرت ستين عاما وما تزال. وقد فضح الكاتب الصحفي الفرنسي مراسل التلفزيون الباريسي في فلسطين (شارل أندرلان) مخططات الدولة العبرية مع التواطؤ الغربي في كتابه المنصف (الأمل المجهض) حين أكد وهو شاهد عيان (ومن أصول يهودية!) بأن السلام المزعوم الذي انطلق من أوسلو لم يكن إلا ربحا للوقت الصهيوني والإنجيلي وسقط ياسر عرفات فيها ضحية بريئة منذ مصافحة رابين في حديقة البيت الأبيض في سبتمبر 1993 حتى اغتياله مسموما في مشفى برسيه بباريس يوم 4 فبراير 2004 مرورا بدك مقره في المقطع برام الله وحشره في غرفة مظلمة من بيته البسيط إلى أن اتفقوا على إعدامه! مع العلم لمن نسي التاريخ بأن عرفات ليس إسماعيل هنية وبأن منظمة التحرير التي رفعت شعار (السلام خيارنا) ليست حماس! ويمكن لمن يشك في هذه المؤامرة الاغتيالية أن يقرأ كتاب الصحفي الإسرائيلي أمنون كابليوك الذي سبق أن عرضته في هذه الصحيفة الغراء والذي يوثق ذلك بالحجة والبرهان.
أكبر خطر يهددنا في هذه المرحلة الدموية هو القطيعة بين الأمس واليوم وبناء سد عال بين تاريخ الأمة ومستقبلها أي إصابتنا بغياب الوعي تجاه التدافع الحضاري الذي يفرض علينا اكتساب المنعة والقوة لا فقط لننقذ غزة بل لننقذ أمة!