عادل بن زيد الطريفي

لا شك أن توقيت المعركة الجارية في غزة لها دلالات عديدة، فالإسرائيليون اختاروا غزو غزة في فترة الأعياد حينما يكون زعماء العالم، وأكثرية سكان العالم الغربي، مشغولين بإجازة الأعياد، وهي من جهة أخرى، جاءت قبيل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة ( 10فبراير) في محاولة على ما يبدو لكاديما والعمل على استباق وعود بنيامين نتنياهو - زعيم الليكود - بغزو القطاع إذا ما استطاع حزبه الفوز - ولونسبيا - في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. أما أهم دلالة - بنظر كثير من المراقبين - فهو استباقها لموعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما ( 20يناير)، بحيث يتم الانتهاء - ولو جزئيا - من ملف quot;حماسquot; كي تكون الساحة مفتوحة أمام الدبلوماسية الأمريكية الجديدة بعيدا عن تخريبات quot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot; المرتبطتين بالمحور السوري - الإيراني.
المعركة ما تزال دائرة، والجهود الدولية تواجه تعقيدات كثيرة، لأن كل طرف في هذه الحرب يعتبر حتى مجرد وقف إطلاق النار مسألة جوهرية ستحدد بطريقة أو بأخرى نتيجة الحرب، ولهذا فإن الأوروبيين وموفد الأمين العام للأمم المتحدة، والوفد الوزاري العربي في الجامعة العربية، والأتراك الذين يتوسطون - بطلب سوري - بين حماس وبعض الدول العربية - لاسيما مصر -، كلهم عاجزون عن إقناع طرفي الحرب بوقف فوري لإطلاق النار. وهذا يعني بالضرورة، أن الحرب قد تستمر حتى 20يناير موعد تنصيب الرئيس الأمريكي القادم، أو - على أقل تقدير - يتم وقف إطلاق نار من جانب واحد (إسرائيلي) بعد أن يتم تحجيم نسبي لعدد ومسافة الصواريخ التي تطلقها quot;حماسquot;.

في كلتا الحالتين، سيكون أمام هيلاري كلينتون المرشحة (الرئيسية) لوزارة الخارجية الأمريكية تحد كبير، إذ عليها الشروع مباشرة في ملف الشرق الأوسط المتأزم فيما يتفرغ الرئيس ونوابه إلى تمرير حزمة من القوانين ومشروعات الإنقاذ العاجلة للمصارف والشركات عبر الكونغرس لدفع عجلة الاقتصاد الأمريكي الراكد.

هيلاري كلينتون لن تحظى ب quot;شهر عسلquot; في منصبها الجديد، وعليها أن توجد حلا مؤقتا للأزمة خلال عشرين يوما، وهي الفترة الفاصلة بين استلام الإدارة الأمريكية الجديدة، وانتهاء ولاية الرئيس محمود عباس، وبداية الانتخابات الإسرائيلية. خلال هذه المرحلة لا بد لوزيرة الخارجية الجديدة أن تعمل لوحدها على تخفيف الأزمة الراهنة، وهذا يعني أنها ستصنع عدوات وخلافات في وقت مبكر من بدءها لعملها الجديد.

علاقة هيلاري كلينتون بالملف العربي - الإسرائيلي معقدة بعض الشيء، إذ أنها أطلقت خلال الأعوام الماضية سلسلة من التصريحات والمواقف المتضاربة فيما يخص النزاع، فقد يتذكر الكثيرون تصريحاتها الشهيرة في 1998التي دعت فيها إلى حل الدولتين قبل زمن طويل من تحول ذلك إلى جزء من السياسة الأمريكية، ونال ذلك الموقف تقريع إيباك والمسؤولين الإسرائيليين، وأكثر من ذلك كانت زيارتها الشهيرة للأراضي الفلسطينية في 1999، حين جاملت الفلسطينيين وأطلقت تصريحات متضامنة استدعت تعقيبا من البيت الأبيض لتصحيح أقوالها، ولم يغفر لها اللوبي الإسرائيلي صمتها خلال كلمة ألقتها سهى عرفات في رام الله - أمام الضيفة - اتهمت فيه إسرائيل باستخدام الغازات السامة ضد الفلسطينيين، وقد كلف ذلك الموقف هيلاري كثيرا حينما سعت لانتخابات مجلس الشوخ في نيويورك - حيث الأكثرية اليهودية -، وتطلب منها الأمر جملة اعتذارات، ومواقف جديدة تدين فيها العنف الفلسطيني. ويجمع كثير من المراقبين على أن هيلاري كانت مضطرة لمسايرة اللوبي اليهودي كثيرا خلال عملها كسيناتورة عن ولاية نيويورك في السنوات التسع الماضية، حتى كاد الكثيرون ينسون قبلات المجاملة التي طبعتها على خد الرئيس الراحل أبو عمار.

اليوم، يطلب من هيلاري أن تكون وسيطا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ليس هذا فحسب، بل عليها أن تعمل بجهد لكسب ثقة كل طرف وهي مسألة شائكة بالنظر إلى مواقفها المتقلبة تجاه الأزمة. هيلاري رفضت التصريح خلال الأزمة الراهنة اقتداء بالرئيس أوباما، واعتذرت بأنه يجب أن تكون quot;هناك وزيرة خارجية واحدة في أي وقتquot;، ولكن رغما عن ذلك فتصريحاتها السابقة خلال مشاركتها في لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس أو خلال حملتها الانتخابية، كلها تشي بموقف متصلب أمام حركة quot;حماسquot;، وسيكون من المثير متابعة دبلوماسيتها القادمة بالنظر لتاريخها المتقلب هذا.

لدى هيلاري جملة من السيناريوهات المحتملة، أحلاها مرّ - كما يقال -، فعلى الجانب الإسرائيلي فإن هدف الحملة الحربية الراهنة هو تقليم أظافر quot;حماسquot;، وهذا يعني جملة من الخيارات: أحدها، احتلال شمالي - شرق القطاع - بيت حانون وبيت لاهيا - لتقليص مسافة إطلاق صواريخ quot;حماسquot; على جنوب إسرائيل، أو - كخيار أكثر خطورة - إعادة احتلال معبر فلادلفيا الذي يربط رفح بالحدود المصرية بغية إغلاق الأنفاق وقطع التهريب الذي هو الشريان الحيوي لحركة quot;حماسquot;.

وبالنسبة لحركة quot;حماسquot;، فإن أهدافها - تكتيكياً على الأقل - هو الوصول لوقف إطلاق نار دائم يضمن رفع الحصار عبر ضمانة دولية قد تكون تركيا وسيطا فيها، وإشرافها - الجزئي - على المعابر. quot;حماسquot; تدرك أن اجتيازها لهذه الحرب حتى وإن كانت مكلفة بشريا ضرورية لإثبات شرعيتها الإقليمية ليس كحركة مقاومة فحسب، بل وكسلطة فلسطينية شرعية للقطاع.

هيلاري ستواجه اتفاق وقف إطلاق نار يترجمه كل طرف كانتصار معنوي له، إسرائيل ستضمن هدنة يتوقف فيها إطلاق النار بضمانة مراقبين دوليين، وquot;حماسquot; ستضمن الخروج سالمة في حرب مع العدو، وستكرس مشروعيتها لقيادة الفلسطينيين إقليميا.

التحدي الأكبر - بنظري - في وجه هيلاري ليس وقف إطلاق النار فحسب، بل التوصل لاتفاق لا يلغي اتفاقية 2005الخاصة بالمعابر، ويضمن عودة المراقبين الدوليين للإشراف عليها. لهذا السبب قد تطول الحرب إلى ما بعد 20يناير، أو قد لا نشهد اتفاقاً مشتركاً على هدنة من طرفين. الأمريكيون سيحرصون على ضرورة عودة إشراف الحرس الرئاسي للسلطة على معبر رفح، وفيما يبدو فالموقف المصري مؤيد لهذا، إلا أنه ليست هناك ضمانات في قبول quot;حماسquot; بعودة رجال السلطة الفلسطينية إلى القطاع، أو حتى الاعتراف بشرعية أبومازن بعد 9يناير. quot;حماسquot; التي كانت رفضت دعوات القاهرة للحوار في نوفمبر، وكذلك تجديد التهدئة عبر الوسيط المصري، غيرت من موقفها بعد يوم من الغزو الإسرائيلي (البري)، وأوفدت رجالها إلى القاهرة ليس استجابة - كما يبدو لطلب الرئيس عباس - بل محاولة أخيرة لفرض شروطها على الوسيط المصري.

نحن لا نعرف حتى الآن ما هو السقف الأدنى لحركة quot;حماسquot;، ولكن يبدو أنها متمسكة بضرورة إيجاد وسيط آخر، حاولوا مغازلة الأوروبيين، ولكنهم في النهاية قبلوا بالوساطة التركية بضغط من سوريا. حتى الوسيط التركي لا يبدو بأنه قادر حتى اللحظة على إيجاد أرضية مشتركة، لديهم - أي الأتراك - رغبة في تهدئة الموقف، ولكن لا نعرف فيما إذا كانوا راغبين بالفعل في تحمل المسؤولية بالكامل أمام ملف شائك كهذا. هنا سيكون أي قرار من مجلس الأمن مسألة ضرورية للأتراك وللأوربيين في التحرك، وإلا فإنهم قد يجدون أنفسهم مكبلين أمام تعنت المواقف على الطرفين الإسرائيلي والحمساوي تماما كما وجد الوفد الوزاري العربي نفسه فيه.

إدارة الرئيس أوباما يجب أن تفكر بجدية في طبخ خطة تهدئة طويلة تتضمن الوقت اللازم للإسرائيليين حتى الانتخابات، وللفلسطينيين حتى يرتبوا بيتهم الداخلي، ويشرعوا في انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. هيلاري حقا أمام محنة عظيمة، لأن ما ستقوم به خلال الأسابيع القادمة قد يطبع مشروع السلام العربي - الإسرائيلي بختمه إلى سنوات قادمة.