سليمان الهتلان

في حوار قصير مع إذاعة البي بي سي، كان السؤال عن ''الحالة الاقتصادية لدبي'' ومن ضمن ما جاء في إجابتي: دبي مثل عربة كانت تنطلق بسرعة 180 كلم في الساعة ثم اضطرت لتخفيف سرعتها إلى 120 كلم. وانطلاقة دبي، وإن خففت من سرعتها ظروف اقتصادية إقليمية وعالمية، مستمرة ولن تتوقف . إنها - مثلها مثل أي تجربة نجاح عالمية - تستثمر الظرف العالمي الطارئ لإعادة ترتيب الأولويات وتصحيح المسار قبل الانطلاق من جديد نحو آفاق واسعة من الإبداع والاستثمار والمنافسة. هذا الكلام ليس مجاملة لدبي وليس من باب ''الحمية'' لكنه في سياق قناعة أكيدة بتجربة دبي وضرورة استمرار نجاحاتها ليس لدبي وحدها ولكن لمنطقتنا بأسرها. إن تجربة دبي التنموية أصبحت ضرورة للمنطقة كلها مهما صاحبها من أخطاء أو سؤ تقدير في قطاع هنا أو هناك. فهل تخلو أي تجربة إنسانية من أي قصور؟ طبيعي جداً أن يختلف الناس، هنا أو هناك، حول دبي لأنها تجربة تنموية مختلفة - بل وصاعقة - ولأنها عملياً قد هيأت لمناخ جديد من التفكير والأداء لم تعهده منطقتنا أبداً. أليست الأخبار التنموية المفرحة في منطقتنا، على مدى عقد، تأتي غالباً من دبي؟ وأولئك اللذين لا يرون في دبي سوى الأبراج العملاقة - وهي منجز مهم - أو الأسواق الضخمة - وهي أيضاً دليل آخر على سرعة المنجز - يتجاهلون أو يجهلون جوانب أخرى مهمة للحراك الثقافي والتنموي في المنطقة. كتبت سابقاً - هنا وفي أماكن أخرى - أن أحد أسباب ''الشماتة'' او ''الحسد'' التي عرفت دبي كيف تتعامل معه هي في الحقيقة المهمة: دبي قادت وتقود التغيير في المنطقة كلها! وكل ما تحقق لدبي وفي دبي شواهد على ذلك. ألم تصبح دبي منبراً عربياً مهماً لحوارات معرفية وثقافية مهمة؟ ألم تصبح دبي المثال الحي لسرعة الإنجاز ومرونة النظام ورفاهية العيش؟ أليست دبي اليوم مركزاً ''عربيا'' مهماً لاستقطاب العقول المبدعة من العالم العربي وخارجه؟ ألم تتح دبي مخرجاً مهماً لرجال الأعمال في المنطقة من تعقيدات ''الروتين'' وبطء الإجراءات وسوء التنظيم؟ أعرف رجال أعمال خليجيين (يقيمون خارج دبي) يأتون إلى دبي تحديداً لعقد اجتماعاتهم مع ممثلي شركات عالمية عملاقة ليس فقط لمرونة الإجراءات في دبي وتناسقها مع متطلبات المرحلة الراهنة ولكن لأن في دبي ما يشرف أي رجل أعمال خليجي وعربي أمام نظرائه من الغرب ومن الشرق. وأعرف أن دبي المكان الوحيد في العالم العربي الذي أطلق مشاريع ثقافية عملاقة تعنى بالترجمة والمعرفة والتعليم. وأدرك أيضاً أن دبي أصبحت الاسم الرنان في أي مدينة أزورها من نيويورك إلى كيب تاون. وكعربي يتوق لتنمية إنسانية حقيقة في محيطه العربي أجدني شديد الفخر بتجربة دبي وإنجازاتها، فخر عبرت عنه كثيراً حتى قبل أن أحظى بالعيش والعمل في دبي.
صحيح: نحن أمام أزمة مالية عالمية ستتأثر بها البلدان والمدن الفاعلة اقتصادياً فمن يمشي أو يركض طبيعي أن يتعثر هنا أو هناك أما الجالس على الأرض - أو على كنبة عتيقة - لن يتعثر لكنه حينما يضطر للوقوف ( ولا بد أن يضطر للوقوف) سيدرك أن أهل الطموحات الكبيرة قد سبقوه مسافات طويلة وقد اتسعت الهوة بينه وبين منجزات العصر. وصحيح أن ثمة ''تصحيح'' في سوق العقار في دبي، تصحيح بدأ الحديث حوله منذ سنتين وكان وما زال ضرورياً لدبي وحراكها الاقتصادي. لكن المهم أن ندرك أن مقومات دبي الاقتصادية الكبرى - غير قطاع العقار - ما زالت مهمة وضرورية لاقتصاديات المنطقة كلها. ولابد من طرح السؤال: ما لذي ميز دبي عن غيرها من مدن الجوار القريب والبعيد؟ كل الأسباب التي جعلت دبي تتميز عن غيرها ما زالت قائمة: فدبي كانت وستبقى - إلى أمد غير معلوم - هي المكان الآمن للاستثمار لوجود أنظمة وقوانين صارمة تحمي المستثمر وترعاه. وهي المكان الوحيد في المنطقة الذي استطاع المحافظة على ''الحياد'' إزاء عواصف المنطقة السياسية والفكرية. وهي من الأماكن القليلة في محيطنا التي توفر لساكنها وزائرها مناخاً إنسانياً لائقاً للعمل والعيش والحركة. وهي المكان الوحيد في المنطقة (و أنا أجزم بهذا) الذي تستطيع عبره أن تستقل الطائرة إلى أي مكان في العالم بيسر وسرعة تتطلبها ثقافة ''البزنس'' المعاصرة. وهي بالتأكيد المكان الوحيد في منطقتنا التي يأتيها الزائر (من أي مكان في العالم) ثم يغادرها وسؤال الدهشة على ملامحه: معقولة؟
ومهما حاول رواد ''الشماتة'' في العالم العربي وخارجه الانتقاص من دبي أو من تجربتها المبهرة، ستبقى تجربة دبي التنموية رائدة وسباقة لأن العقلية التي تقف خلف المنجز في دبي تنطلق من ''رؤية'' ذات نظرة بعيدة وفكر أعمق وطموح كبير وستظل دبي ، بإرادة قيادتها وطوحها الذي لا يتوقف، ملاذاً آمناً للإبداع والتفكير الخلاق والمنجز العملاق.

- كاتب ومستشار إعلامي