ويليام رو

يدفع كل من طرفي الأزمة الحالية في غزة بحجج قانونية متعارضة سعياً لتبرير موقفه. فمن ناحيتهم يقول الإسرائيليون إنهم لجأوا للعمل العسكري، لأن دولتهم تعرضت للعدوان بواسطة صواريخ أطلقت عليها من خارج حدودها، وإن لهم كامل الحق القانوني في الرد العسكري على ذلك العدوان، باعتباره دفاعاً مشروعاً عن النفس بموجب نصوص القانون الدولي. وهذه هي الحجة التي حظيت بتعاطف الكثير من قادة العالم، بمن فيهم الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما، الذي أبدى تعاطفاً مع هذه الحجة الإسرائيلية، مع العلم أنه قانوني في الأساس.

ومن ناحيتهم، يرد الفلسطينيون بالقول إن إسرائيل هي التي انتهكت القانون الدولي، باستمرار الحصار المفروض على سكان القطاع من قبل القوة الإسرائيلية المحتلة، معيقة بذلك حركة المواطنين وتدفق السلع والبضائع من وإلى القطاع، وهو ما يتنافى ونصوص معاهدة جنيف الخاصة بقواعد وشروط الاحتلال. ويضيف الفلسطينيون إلى حجتهم هذه القول إنه وحتى إذا ما افترضنا أن إسرائيل تزعم الرد العسكري على الصواريخ التي تطلق عليها كما تقول، فهي قد أفرطت في استخدام هذه القوة بما لا تجيزه نصوص القانون الدولي.

وتستطرد حجج كلا الطرفين بزعم الإسرائيليين أن هدفهم من الاستخدام الرادع للقوة، هو وضع حد لهجمات مقاتلي حركة quot;حماسquot;، وأن عملياتهم لا تستهدف سوى العناصر المسلحة التي لا تكف عن شن الهجمات المعادية لإسرائيل، وهو حق يكفله القانون الدولي لإسرائيل. ولكن يرد الفلسطينيون على هذه المزاعم بالقول إن العملية العسكرية الجارية حتى الآن في القطاع، أزهقت أرواح الكثير من المدنيين الأبرياء، وأوقعت آلاف الإصابات بينهم، مما يعني أن إسرائيل تؤذي سكان القطاع كلهم دون استثناء، بما يصل إلى حد فرض عقوبة جماعية على مجتمع بأسره، وهو ما لا يقره القانون الدولي أيضاً. أضف إلى ذلك أن قطاع غزة ليس دولة في نهاية الأمر، مما يعني أن إسرائيل لا تلتزم بنصوص القانون الدولي الخاصة بقواعد شن الحروب.

وضمن الحجج المثارة على العملية العسكرية الإسرائيلية الجارية، يشير الفلسطينيون إلى قصف الطائرات والمدرعات الإسرائيلية للكثير من المساجد والمدارس والمستشفيات، وهي جميعها مؤسسات ومرافق مدنية كان ينبغي اتخاذ الحذر الكافي وتجنيبها أي هجوم أو استهداف عسكري، بموجب القواعد الدولية المنظمة للحرب. إلا أن إسرائيل تبادر من ناحيتها إلى نفي هذه التهمة بقولها إن عملياتها العسكرية استهدفت المنشآت المذكورة استثناء، لكونها تؤوي إما عناصر مسلحة أو تستخدم لتخزين الأسلحة والذخائر المنسوبة لمقاتلي quot;حماسquot;.

وهكذا يتواصل السجال القانوني بين كلا الطرفين، ويستمر كل طرف في الدفاع عن شرعية موقفه القانوني. غير أن النزاع والأزمة الحالية الناشئة عنه، لا يمكن تفسيرهما أو فهمهما على أساس قانوني، لأن طبيعتهما سياسية في الأساس. وانطلاقاً من هذه الطبيعة ينبغي علينا إثارة السؤال: ما هي دوافع كل طرف من طرفي النزاع؟ فخلال الأشهر الستة الماضية، سادت الهدنة التي توسطت مصر في إبرامها بين إسرائيل و quot;حماسquot;، ووقعت أحداث عنف متفرقة خلالها، كما أطلق عدد قليل من الصواريخ الفلسطينية على البلدات الإسرائيلية المجاورة للقطاع، كانت حصيلة قتلاها من المواطنين الإسرائيليين صفراً، لأن تلك الصواريخ سقطت على مساحات خالية، ولم تصب أي هدف بشري. ومن ناحيتها بادرت quot;حماسquot; في مرات عديدة إلى تقديم عرض لإسرائيل بتمديد الهدنة لفترة تصل إلى عشر سنوات. يضاف إلى ذلك قبول quot;حماسquot; ببقاء دولة إسرائيل ضمن حدودها السابقة لحرب عام 1967. غير أن إسرائيل رفضت قبول هذه العروض، وفضلت بدلاً منها شن عدوانها الغاشم على قطاع غزة. فلماذا تصرفت على هذا النحو يا ترى؟

لم يكن مصادفة تزامن شن هذا العدوان العسكري، مع دنو أجل الانتخابات الإسرائيلية المرتقبة في شهر فبراير المقبل، وأن حكومة حزب quot;كاديماquot; الحالية تواجه فيها تحدياً من قبل بنيامين نتانياهو زعيم حزب quot;الليكودquot; اليميني المتطرف، الذي وعد بتشديد مواجهته لأعداء إسرائيل. ولما كان وزير الدفاع الحالي إيهود باراك، وكذلك وزيرة الخارجية تسيبي ليفيني، يتشبثان بالبقاء في السلطة، فقد أرادا أن يثبتا للقاعدة الإسرائيلية الناخبة، أنهما ليسا أقل شدة ولا حزماً من نتانياهو في مواجهة أعداء إسرائيل.

وعلى صعيد آخر، كان رئيس الوزراء الحالي إيهود أولمرت، قد تعرض لانتقادات عنيفة بسبب عجز حكومته عن سحق quot;حزب اللهquot; اللبناني في المواجهة العسكرية التي درات مع مقاتلي الحزب في صيف عام 2006، وعليه، فقد ظن إيهود باراك وتسيبي ليفني، أنه وفيما لو تمكنت القوات الإسرائيلية من سحق quot;حماسquot; في هذه الحرب، فإن في ذلك ما يعزز صورة عزم وقوة شكيمة الحزب الحاكم في نظر الناخبين، مما يوفر ضمانات أكبر لفوزه بانتخابات فبراير المقبلة.

يُضاف إلى ذلك أن الجيش الإسرائيلي يريد الثأر لنفسه من الإهانة التي ألحقها به quot;حزب اللهquot; في صيف عام 2006، بما يرد إليه ثقته وقدرته الرادعة وصورته النمطية السائدة عن كونه جيشاً لا يقهر. ولهذا السبب، فليس مستبعداً أن يكون قادة الجيش، قد طمأنوا إيهود باراك وليفني على قدرة قواتهم على سحق مقاتلي quot;حماسquot;. فوق ذلك كله، ربما فضل القائدان الإسرائيليان المذكوران، تعجيل شن الغزو على القطاع في ظل وجود إدارة بوش الحالية المعروفة بدعمها غير المحدود لإسرائيل، طالما أنهما ليسا متأكدين من مدى إمكانية دعم إدارة أوباما الجديدة المرتقبة لغزو بكل هذا الحجم على القطاع.

وفيما يبدو، فإن هناك حسابات سياسية خاصة من جانب حركة quot;حماسquot; أيضاً. فالمؤكد أن قادة الحركة يدركون استحالة إيقاع ميليشياتهم ومقاتليهم أي ضرر عسكري كبير يذكر بإسرائيل، التي تتمتع بقوة عسكرية هائلة. ولذلك، فإن استمرار مقاتلي الحركة في إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية، لم يقصد به سوى التعبير الرمزي عن الاحتجاج على استمرار الاحتلال الإسرائيلي والحصار المفروض على سكان القطاع، وهو ما يصل في نظرهم إلى حد فرض العقوبة الجماعية على كافة سكان القطاع. ويعتقد قادة الحركة أن الفلسطينيين هم ضحايا الاحتلال والحصار الإسرائيليين، إلا أنه ليس من أحد يستمع إلى أنينهم وآلامهم، وليس من سبيل لإسماع العالم أنات هؤلاء سوى إطلاق الصواريخ. وبسبب حساسية إسرائيل وسعيها لتفادي ردة الفعل العالمية إزاء مآسي عدوانها على القطاع، منعت دخول الصحفيين الدوليين إلى هناك، وهذا بحد ذاته إجراء يحرم المهتمين في الدول الغربية من معرفة القصة الكاملة لما يجري حالياً في القطاع.

ولكن ربما يخاطر كلا طرفي النزاع سياسياً الآن. فليس مستبعداً أن تخرج إسرائيل من هذه المواجهة بانتكاسة سياسية شبيهة بتلك التي شهدتها إثر حرب صيف عام 2006 في لبنان. وفي المقابل ربما يخاطر الفلسطينيون بخوض هذه المواجهة غير المتكافئة عسكرياً، بتدمير قوة حركة quot;حماسquot; على الفعل.