عبد الوهاب بدرخان

حرب غزة هي حروب عدة متداخلة، المعلن منها واحدة فقط هي التي تدور رحاها أمام العرب والعالم بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة quot;حماسquot;.

لم يتوصل قرار مجلس الأمن رقم 1860 إلى فرض وقفٍ لإطلاق النار، وفي الأساس لم يكن متوقعاً له أن ينجح في ذلك، فلا بنود القرار ولا لغته ولا المداولات التي أدت إليه توحي بشيء آخر غير الميوعة أمام شدة الوحشية الإسرائيلية، والبرودة أمام مجازر يومية متتالية ترتكبها إسرائيل بتفلُّت مذهل من كل روادع المعاهدات الدولية.

يجب أن نتذكر أن quot;عقيدة شارون- موفازquot; لا تزال سائدة، وهي ارتكزت أساساً إلى وجوب أن يكون لكل يوم رقمه القياسي من الضحايا. لا شيء غير القتل ثم القتل ثم القتل. ولم يكن لدى شارون وموفاز هاجس انتخابات، لكنهما كانا واثقين بأن الدم يضمن لهما فوزاً مؤكداً وعظيماً. الزعيم الإسرائيلي الذي يتسلل إلى عقله رمق من أخلاقية لابد أن يسقط. باراك وليفني تعلما الدرس وأضفيا على القتل الجديد نكهة الانتقام من خيبة صيف 2006 وحرقة الرهان على مستقبلهما السياسي.

تلك هي الحرب الإسرائيلية- الإسرائيلية التي عبأت صناديق الاقتراع مسبقاً بالدم الفلسطيني، وسط تصفيق الناخبين. وفي خلفية هذه الحرب حرب أخرى استباقية لبداية عهد باراك أوباما، صحيح أن الرجل بذل كل الجهد المطلوب لإرضاء يهود أميركا وإسرائيل، إلا أن شيئاً ما، نفسياً على الأرجح، يدعو إلى التوجس منه. ففي أسوأ الحسابات هناك بداهة أن أوباما ليس جورج دبليو بوش الذي أتاح للوحشية الإسرائيلية أن تفلت من كل عقال، وبالتالي فإن إسرائيل لم تكن واثقة بأنها تستطيع خوض حربها المجنونة هذه بتغطية أوبامية. لذا فهي تستشرس في غزة لفرض شروطها مسبقاً على أجندة أوباما.

الحرب الثالثة داخل حرب غزة هي، كما في يوليو 2006، تلك التي تدور بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى. فـquot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot; تحولا عملياً إلى مشروع واحد، وهما يعيشان هذا الواقع ويتحركان في إطاره، تحت عنوان المقاومة، بل المقاومة المفتوحة التي لا تعترف بأي حوار مع العدو. وإذ أعلن موفد إيراني إلى سوريا ولبنان استعداد بلاده للمساهمة على المستوى الدولي من أجل وقف العدوان، فقد فُهم ذلك بأنه رسالة مفادها وجوب التحدث مع إيران للتوصل إلِى حل. لكن إدارة بوش المغادرة بعد أسبوع لا تريد أن تعطي أي دور لطهران، بل على العكس تعتقد أن هناك فرصة لتوجيه ضربة للنفوذ الإيراني في غزة، ولذلك فلا مجال لديها سوى حث إسرائيل على مواصلة المهمة والإسراع في انجازها. ولكن إنجاز ماذا؟ فخلال أسبوعين ونيف لم يشهد العالم سوى استهداف منهجي للمدنيين، أما نجاح إسرائيل في إنزال هزيمة بـquot;حماسquot; فقد يتسبب بتوسيع الحرب... إلى لبنان.

لكن الحروب الأخرى الممضَّة داخل حرب غزة، هي تلك التي اشتعلت فلسطينياً- فلسطينياً وعربيا- عربياً، وليس مؤكداً أنها ستهدأ أو تنتهي إذا قدِّر لمعاناة غزة أن تتوقف غداً أو بعد غد، أو بعد بعد غد. فهذه الحروب بين quot;الاعتدالquot; وquot;الممانعةquot;، بين quot;عرب أميركاquot; وquot;عرب إيرانquot;، بين حكومات تغطي عجزها بالواقعية والبراغماتية وبين شارع عربي بلغ أقصى الألم والغضب. هذه الحروب وضعت العالم العربي أمام منعطف خطير: فإما العودة الجماعية إلى خيار مواصلة الصراع مع إسرائيل، وإما البقاء الجماعي مع خيار السلام كـquot;خيار استراتيجيquot; يقرّ مؤيدوه بأنهم خذلوا من جانب الأميركيين والإسرائيليين، بل تبيَّنوا مراراً أنهم لا يتعاملون مع خيار استراتيجي مماثل أميركياً وإسرائيلياً. وها هو السلام في صدد الانتحار في غزة.

العالم العربي وجد نفسه، بموازاة حرب غزة، وسط مشروعين متناقضين ومتناحرين، وكالعادة تجد إسرائيل أن لديها وحدها ما تستفيده من هذا الانقسام العربي الحاد، حتى أنها باتت تلعب على شطرنجها أطراف عربية ضد أطراف عربية أخرى، سواء ارتضت هذه الأطراف أم لم ترتضِ. كان quot;النظام العربيquot; (الرسمي) قام وترعرع وتبلور على أساس أن لديه قضية اسمها فلسطين، قضية جوهرها دفع الظلم وتحقيق العدالة واستعادة الحقوق المسلوبة. للأسف، إذ ينقسم الفلسطينيون على هذا النحو المحبط، وإذ ينقسم العرب على هذا النحو الذي يتحادثون فيه بـquot;التزكيةquot; فيما بدأ الأتراك ينطقون سياسياً بـquot;العربيةquot;، فإنهم يبرهنون كأنهم لم يؤمنوا يوماً لا بالعروبة ولا بالقومية ولا بأيٍ من المبادئ التي شكلت وتشكل القضية الفلسطينية.