السير سيريل تاونسيند

إذا كنا ننتظر من الرئيس الأميركي المنتخب، باراك أوباما، الدخول في صدام واضح وقوي مع السياسة الإسرائيلية على خلفية الحرب الدائرة في غزة، التي وصفها الكاتب البريطاني باتريك سيل بـquot;حرب إسرائيل المجنونةquot;، فإننا سنصاب بخيبة أمل كبيرة. فعلى حد علمي كان الرئيس الأميركي الأسبق دوايت إيزنهاور هو أول وآخر رئيس أميركي رفض الانجرار إلى الملعب السياسي الإسرائيلي والتورط في تعقيداته، لكن تلك كانت أياماً مختلفة ولت دون رجعة. وفيما اتخذ الرئيس جورج بوش الأب موقفاً صارماً من إسرائيل في إحدى المناسبات عندما أوقف المساعدات المالية عنها، إلا أنه أدرك لاحقاً هو وفريقه أن موقفه ذلك تسبب في خسارة كبيرة على المستوى السياسي. ويبدو أن الرئيس بوش الابن استفاد من تجربة والده وانحاز منذ البداية إلى جانب الدولة العبرية، ودون قيد أو شرط. ولا أعتقد أنه فيما تبقى من حياتي سيُكتب لي أن أرى زعيماً أو مرشحاً سياسياً للرئاسة في الولايات المتحدة يقف في وجه إسرائيل، ولا يخضع للوبي المناصر لها، لأنه بدون طأطأة الرأس لجماعات الضغط اليهودية ذات النفوذ المتعاظم في أميركا فلن يتمكن المرشح من دخول المكتب البيضاوي.

كما أنه بدون الانصياع للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة سيهدر المرشح جهده وماله هباء، ولن يحصل على الدعم الضروري للفوز بالرئاسة، لاسيما في ولايات مثل نيويورك وفلوريدا التي يتوفر فيها اليهود على قوة انتخابية ملحوظة، بل إن الدفاع عن الولايات المتحدة نفسها والسعي إلى إبراز مصالحها الخاصة على حساب إسرائيل قد يكلف المرشح ثمناً باهظاً بسبب الحضور الطاغي لجماعات الضغط اليهودية، وذلك على رغم العدد الضئيل لليهود الذين يعيشون في أميركا ككل. والحقيقة أن التتابع الغريب وغير المتوقع للأحداث هو ما يؤثر على السياسات الدولية ويسهم في بروز مواقف معينة وصياغتها تبعاً للمعطيات المستجدة كتلك الجارية في غزة، فقبل شهور قليلة لم يتوقع أحد أن تشهد الأراضي الفلسطينية وتحديداً قطاع غزة كل هذا التدمير وتدخل quot;حماسquot; في مواجهة غير متكافئة مع آلة إسرائيل العسكرية المتفوقة عليها، والتي أتت على الأخضر واليابس؛ وهذه الأحداث التي لاشك ستلقي بظلالها على عملية تنصيب الرئيس أوباما وربما تعيد ترتيب أولوياته حسب الظروف الطارئة. هذا وقد كان موقف أوباما صائباً سياسياً عندما رفض الإدلاء برأيه حول الموضوع منتظراً إلى ما بعد تنصيبه لتوضيح هذا الموقف، فهو في هذه المرحلة ما زال منهمكاً في تشكيل عناصر فريقه الذي سيقود بمعيته البلاد، كما أنه ما زال في مرحلة قراءة التقارير والتمعن في التفاصيل لبلورة رؤية واضحة حول عدد من القضايا المهمة، ولن يسهم التسرع في التصريح بموقفه سوى في تشويش سياسته، وربما التسبب في مشاكل هو في غنى عنها أصلاً.

وقد اكتفى أوباما في تعليقه على الأحداث الأليمة في غزة بالتعبير عن أسفه لفقدان حياة المدنيين في غزة وإسرائيل قائلًا إن ذلك يشكل quot;مصدر قلق بالغ بالنسبة لهquot;، مضيفاً في الوقت نفسه: quot;لن أتراجع قيد أنملة عما قلته في حملتي الانتخابية، بأننا سننخرط بشكل مستمر وفعال في العملية السلمية، كما أنه لدينا الكثير لنقوله حول غزة، وفي 20 يناير ستسمعون مباشرة منيquot;. والواضح أن أوباما سيرث عن إدارة بوش سلسلة من السياسات المغلوطة التي طغت على مقاربته لقضايا الشرق الأوسط وعلى الصراع بين العرب وإسرائيل، فقد رمى بوش بكامل ثقله وراء إسرائيل في حربها على لبنان في عام 2006 ووقف بجانبها أملًا في قدرتها على اقتلاع quot;حزب اللهquot; والتخلص من ورقة مهمة تملكها إيران في المنطقة، إلا أن ذلك الموقف لم يسهم سوى في قلب الرأي العام العربي ضد أميركا وإحراج حلفائها من الدول العربية. واليوم بدأت تلوح علامات الانقسام داخل المؤسسة الأميركية بين وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي حول العنف المستشري في غزة، حيث شرع بعض مستشاري وزارة الخارجية في مغادرة مناصبهم على بعد أيام قليلة من انتهاء ولاية الإدارة الحالية، ولم تقتصر بوادر الاختلاف على داخل أميركا فقط، بل امتدت إلى الخارج من خلال تباين المواقف البريطانية والأميركية في مجلس الأمن وسلوك كل منهما طريقاً مختلفاً.

ويبقى الأمل في أن يدرك الرئيس القادم، أوباما، الذي يتمتع بالذكاء اللازم والقدرة على الفعل، على رغم تجربته المتواضعة في القضايا الدولية، أن التوصل إلى اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل هو حجر الأساس لضمان الأمن في المنطقة وإخماد فتيل الصراعات القادمة. وعلى أوباما أن يفهم أيضاً أن إنهاء الصراع في الشرق الأوسط من شأنه تحسين العلاقات بين الإسلام والغرب وتقريب وجهات النظر المتباعدة بينهما، ولاسيما أن ما يجري حالياً في قطاع غزة من قتل وتنكيل، وما تنقله وسائل الإعلام من صور ومشاهد مروعة للضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء، سيؤجج مشاعر الغضب في نفوس المسلمين ضد إسرائيل وأميركا، بل وضد الغرب عموماً. وفي هذا الإطار ننتظر من أوباما أن يثبت براعته السياسية في معالجة القضايا العاجلة، فمن جهة عليه أن يؤكد موقفه من إسرائيل كحليف أساسي لأميركا، لكن من جهة أخرى عليه أن يبدي توازناً أكبر في التعامل معها وألا يتردد في تنبيهها إلى أخطائها عندما يتبين له أنها حادت عن الطريق. وفي البداية لابد من وضع الخطوط العريضة لتصوره وتوضيح ملامحه الأساسية مثل إعلانه الرغبة في إقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية مع ضرورة اقتسام القدس والانسحاب إلى حدود عام 1967، والتشديد على أن تتعامل إسرائيل بحزم وجدية مع موضوع المستوطنات دون إبطاء لدورها الكبير في تقويض مساعي السلام. وسيفاجأ أوباما بمستوى الدعم الدولي الكبير الذي ستلقاه جهوده في هذا الاتجاه سواء من الدول الأوروبية، أو من الجامعة العربية التي سبق أن طرحت مبادرتها للسلام مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، لذا تشكل مأساة غزة فرصة سانحة ونافذة أمل جديدة لأوباما للدفع بعملية السلام وتجاوز حالة التخبط والعنف السائدة حالياً.