رشيد الخيون

لم تشتهر غَزَّة عبر اجتياحات إسرائيل، والهجوم الوحشي الأخير عليها، بالزاحفات والقاصفات، ولا عبر انقلاب حماس، وشطرها من الجسد الفلسطيني العليل بحمى الاختلاف، والملل من طول الرجاء بإقامة دولة، وما أظهره الإسلام السياسي فيها من قصر نظر، مع أنه ترأس بانتخاب ليس لأحد حق الاعتراض عليه. ظن الناخبون أنه التيار الأكثر عقلانيةً وكياسةً! لمَ لا وهو يرفع الرايات الخضر والعبارات القدسية، وأن الاحتفاظ بغَزَّة حرةً تمثل أمنية كبرى لتحقيق أمانٍ أُخر.

بل غَزَّة واحدة من أقدم عشر مدن على الأرض، وفي غابر الأيام حطم أبوابها المارد شمشون الجبار، واحتلها الملك الآشوري سرجون الأكدي، واجتاحها أحد فراعنة مصر، إلا أن الأكثر قسوة عليها كان جيش الإسكندر المقدوني (معجم الكتاب المقدس). وورد ذكرها عشرات المرات في كتاب laquo;التوراةraquo;. وأحسب أن الاجتياحات التي تعرضت لها لا تضاهي مجتمعة الزحف الإسرائيلي الجاري عليها الآن، إذا ما قابلت أدوات اجتياحات ذلك الزمن بأدوات الترسانة الحربية النازلة عليها! ومع ذلك يعلن قادة حماس بتصريحات من أروقة المستشفيات والمدارس انتصاراتهم، وكم ذَكرنا أحدهم، وهو يرتدي بزة الحرب، بانتصارات صاحبنا الوهمية ببغداد! حتى نزلت النوازل عليه وعلى العراقيين!

ذكر غَزَّة أبو زكريا القزويني (ت 680 هـ) بالمدينة الطيبة laquo;بين الشام ومصر على طرف رمال مصرraquo; (آثار البلاد وأخبار العباد)، حيث الاختلاف على التسريبات عبر الأنفاق بينها وبين مصر في الوقت الحالي. إلا أن القزويني لم يذكرها إلا بسطرين ثم يفيض ببقية الصفحات بأخبار وليدها الإمام صاحب المذهب محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ). ونجد القزويني يستغل المناسبة ليأخذ ثأره المذهبي من أئمة المذهب الحنفي، حين ناظروا الشافعي ببغداد. وبعد أن هجرها طفلاً إلى الحجاز حنَّ إليها الشافعي قائلاً: laquo;وإني لمشتاق إلى أرض غَزَّةٍ.. وإن خانني بعد التفرُّق كتماني.. سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بتربها.. كحلت به من شدةِ الشوق أجفانيraquo; (الديوان).

يبدأ تاريخها الإسلامي في خلافة عمر بن الخطاب (ت 23 هـ)، بفتحها من قبل والي الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ). ويأتي ذكرها لدى ياقوت الحموي (ت 626 هـ) بعجيب القول: laquo;غَزَّة كانت امرأة صور، الذي بنى صور مدينة الساحلraquo; (معجم البلدان). وينقل الحموي لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي (ت 27 هـ): laquo;تزودها من أهل بُصرى وغَزَّة.. على جَسرة مرفوعة الذّيل والكفلِ.. بأطيب ما فيها إذا جئتُ طارقاً.. ولم يتبين صادقُ الأفقُ المجليraquo;! وقيل مات فيها أبو الهواشم هاشم بن عبد مناف بدلالة بيت الشاعر الجاهلي مطرود بن كعب الخزاعي: laquo;مات النّدى بالشام لما أن ثوى.. فيه بغَزَّةَ هاشم لا يبعدُraquo;، رداً لجميل له عليه.

ومن البلدانيين الموسوعيين ذكرها محمد بن أحمد المقدسي البشاري (ت 380هـ): laquo;غَزَّة كبيرة على جادَّة مصر، وطرف البادية، وقرب البحر، بها جامع حَسن، وفيها أثر عمر بن الخطاب..raquo; (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). وآخر قال: laquo;كانت مستطرقاً لأهل الحجازraquo; (الممالك والمسالك). وآخر البلدانيين زارها ابن بطوطة (ت 779 هـ) ووجدها: laquo;متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حَسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها مسجد جامع حَسن، والمسجد الذي تُقام الآن به الجمعة..raquo;. ثم عاد ابن بطوطة إليها، بعد حين، فوجدها شبه قفراء، قد عاث بها الوباء (لعلَّه الطاعون)، وقضى على معظم سكانها بمعدل ألف ومئة في اليوم الواحد (الرحلة).

حاضر غَزَّة، كل لحظة تمر على أطفالها ونسائها وشيوخها تعادل طواعين الأيام الخوالي، فمن زمن والجميع يعرف الدلال الدولي الذي يعصم دولة إسرائيل من عقوبة وحساب، أو حتى لفت نظر، وتوبيخ بكلام معسول لا بالقوة، والسادة رؤساؤها المنتخبون يعطون الأعذار لتلك القوة الجارفة، ويا ليتهم قادرون على حماية العزل من السلاح، فتارة تتركهم الشعارات بلا طعام، وأخرى تعرضهم إلى الموت الجماعي، بطواعين لا ترحم، لا تميز بين الصغير والكبير، ولا بين الحجر والبشر. وعلى حد قولة أعمى اليمن: laquo;ماذا أُسمي ما جرى! حرفاً ولكن صار فعلاً.. الفاتحو باب الردى.. لا يملكون الآن قفلاraquo;! لا يُقال هذا تبرئة لإسرائيل وعنجهيتها، إنما إذا خرجت السياسة عن طبيعتها laquo;فن الممكنraquo;، تتحول إلى انتحار، ولا خاسر سوى المئات، وسيغدون ألوفاً، من المطويين في الأكفان.

ما تقدم استذكار مختصر لغَزَّة العريقة، وهو أضعف الإيمان. غَزَّة التي تذبح اليوم من الوريد إلى الوريد وتقصف بحمم من النار، تجاوزت العوادي الخوالي التي مرت عليها، من قهر شمشون الجبار إلى اجتياح الإسكندر.