السيد ولد أباه

دخلت مأساة غزة أسبوعها الرابع بالفظائع نفسها، وبالمشاهد المروعة ذاتها. وإذا كان من الصحيح أن الكثير من الأصوات ارتفعت في العالم كله بما فيه أوروبا وأميركا منددة بالعدوان، إلا أن السؤال مطروح: لماذا لم تتحول المأساة الراهنة، ومن قبلها فظائع الإبادة والتقتيل الجماعي التي حدثت في قانا وجنين إلى نفس موقع مأساة سبرنتشا البوسنية في الوعي الغربي؟ لماذا لا تستثير جرائم الاحتلال الإسرائيلي التعاطف المطلوب مع الضحايا المدنيين العزل في الشارع الغربي ولدى حكوماته؟

أعرف أن الجواب الجاهز لدى الكثيرين هو أن مرد الظاهرة تحكم اللوبيات اليهودية في القرار الأميركي وعقدة المحرقة اليهودية في أوروبا. بيد أن هذه الإجابة لا تقدم سوى ردود مبسطة جزئية عن معادلة معقدة، نادرا ما نبذل جهدا حقيقيا لفهمها.

ولا بد في محاولة هذا الفهم المطلوب أن نشير إلى أربعة محددات تستدعي وقفة تذكير واستيعاب:

أولا: التباس الواقع الإسرائيلي في المخيال الغربي، بمعنى التداخل بين الظاهرة الاستيطانية اليهودية في فلسطين التي منحت شرعية دينية وميتولوجية بالاستناد إلى عقيدة laquo;الوعد المقدسraquo; المركزية في التقليد اليهودي ndash; المسيحي والوجود السياسي القائم على الشرعية القانونية المرتكزة على قرار الأمم المتحدة المنشئ للدولة العبرية، ووضع المحتل الذي ينزع عنه الطابع الاستعماري التقليدي بالنظر لخصوصية الدولة والظروف الاستثنائية لنشأتها.

ثانيا: التداخل الكثيف بين تجربة الاستيطان الأوروبي في أميركا والاستيطان اليهودي في فلسطين، من حيث الميتولوجيا الروحية (الوعود المسيانية الكثيفة لدى المهاجرين البروتستانت الأوائل إلى العالم الجديد) ومن حيث المشروع السياسي (القضاء على السكان الأصليين لفسح الطريق أمام دولة القيم والحرية). ولقد درس الفيلسوف الفرنسي الكبير جيل دلوز هذه الظاهرة المقارنة في نص جميل معمق كتبه بعد مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، بين فيه أن الفلسطيني هو laquo;الهندي الأحمر الجديدraquo; الذي تجري إبادته بتواطؤ أميركي يفسر بتشابه السياقين الأميركي والإسرائيلي على الرغم من تباين الخلفيات التاريخية.

ثالثا: يظن دوما أن حضور اللوبيات اليهودية في الغرب هو حضور اقتصادي ومادي، يقوم على الابتزاز والضغط والتهديد، وفقا لصورة نمطية قديمة عن الشخصية اليهودية. وإذا كان من الخلف إنكار حقيقة الدور الاقتصادي والتجاري اليهودي في البلدان الغربية، إلا أن التأثير الحاسم يعود لأسباب ثقافية وإعلامية وليس لمجرد القوة المادية. فالخطاب الداعم لإسرائيل يتبلور في سجلين ثقافيين متمايزين هما: السجل الفلسفي- الفكري الذي أشرنا إلى بعض مكوناته في الأسبوع الماضي والسجل الايديولوجي الذي يستخدم القنوات الإعلامية للوصول إلى المواطن الغربي العادي.

فالسجل الأول ليس بالضرورة متبنيا للعقيدة الصهيونية، إلا إن الفلاسفة اليهود الغربيين (وهم كثر) استطاعوا بالفعل على عكس مفكرينا إعطاء صورة عميقة ومغرية عن الرمزية الثقافية والقيمية اليهودية من خلال عملية تأويلية واسعة وخصبة للتراث اليهودي بما فيه أكثر نصوصه انغلاقا وتعصبا وعدوانية. أما الساسة المتأثرون بالايديولوجيا الصهيونية فقد هيمنوا على واجهة الإعلام السيار، في الوقت الذي ليس للعرب والمسلمين حضور يذكر في هذه القنوات المؤثرة. ولعل السياق الوحيد الذي فتح لنا ولم نستثمره بالكامل هو فضاء الأدبيات النقدية للهيمنة الثقافية والنزعات العالم ثالثية التي تجددت هذه الأيام بعد طول كبوة في شكل تيارات العولمة البديلة.

رابعا: التداخل في خطابنا التعبوي بين سردية المقاومة المشروعة ضد الاحتلال التي تكفلها المواثيق والقوانين الدولية والسردية القومية والدينية التي قد تولد لدى الآخر التباسات في الصورة. أي بعبارة أخرى، من المتاح إسماع الغربي صوت الضحية المحتل، لكن من العصي استقطابه لحقوقنا القومية والحضارية خصوصا إذا أخذت شكلا مسيانيا ميتولوجيا منافسا للميتولوجيا الصهيونية. ولا يعني هذا الكلام إنكار الطابع القومي أو الحضاري للصراع (وإن كانت هذه الكلمات الكبيرة تحتاج للشرح والتوضيح)، وإنما مجرد التنبيه إلى أن ضحايا الماكينة الإسرائيلية المعتدية هم بشر لهم كرامة وحقوق قبل أن يكونوا عربا أو مسلمين.