وفيق السامرائي

حرب غزة في أسبوعها الثالث، والطرفان المتحاربان متمسكان بمواقفهما المبنية على تناقض تام في الأهداف والنوايا، كدليل فشل مطلق لكل المساعي السلمية بينهما، التي كونت مدخلا حتميا لحرب مصيرية بالنسبة لحماس، ومهمة لإسرائيل، لما تترك من أثر على مستقبلها على نحو ما.
وماذا حققت الحرب حتى الآن إلى جانب المآسي؟ حققت المزيد من الفشل. فعلى الجانب الفلسطيني، تلقت حماس ضربة عسكرية ونفسية كبيرة عندما فوجئت بمستوى العمل العسكري الإسرائيلي، وكان ممكنا تفاديها خسائر الضربة الجوية الأولى، لولا وقوعها تحت تأثير المباغتة، مما يدل على أنها بوغتت بدرجة عكست خللا في تقييم جهاز استخباراتها، وقدرة التحليل المسبق للأحداث وما يترتب على مواقف تغيب عنها المرونة.
من علامات الفشل الميداني على الجانب الفلسطيني أيضاً، فشلُ حماس والفصائل التي تقاتل معها، في جر القوات الإسرائيلية إلى معارك برية يجري القتال فيها وجها لوجه، وفق ظروف ومعطيات تفرض من قبلها، وفشلها في شن هجمات وغارات على مواقع تحشد وانتشار القوات الإسرائيلية، لجعل المبادأة متقابلة، وليس بيد القوات الإسرائيلية فقط، بدل الخضوع لمبادئ وظروف الدفاع المستكن، الذي غالباً ما تكون نتائجه سلبية على المدافعين.
أما علامات الفشل الإسرائيلي ، فتكمن في عدم النجاح في تحديد المواقع البديلة لقيادات حماس الجماعية وليس الفردية، برغم كل قدرات الاستطلاع الجوي والمصادر البشرية لجمع المعلومات، مما يدل على أن اختراقات الاستخبارات الإسرائيلية محدودة وضعيفة، وربما مفقودة، في المراكز الحساسة من مفاصل حماس العليا. وفشل في جر حماس إلى قتال خارج أعماق المدن وفق ظروف تهيؤها هي، وفشل في إيقاف إطلاق الصواريخ الفلسطينية، خصوصا خلال ساعات النهار، على الرغم من السيادة الجوية المطلقة واستخدام كل وسائل الاستطلاع المستمر، فالحوم الدائم للهليكوبترات المسلحة والطائرات من دون طيار التي تنقل صورا آنية لساحة المعركة، يجعل القائد الميداني مشرفا على كل حركة في ميدان المعركة.
هكذا يبدو الطرفان المتحاربان في مأزق كبير، بسبب محدودية الخيارات، وتحولت الحرب إلى عمليات استنزاف إسرائيلية للموارد القتالية للفصائل الفلسطينية، التي تعاني من عدم توافر قدرة التعويض، عن مصروفات العتاد بشكل أساسي، ومن هذا المنطلق يرجح أن تقوم القوات الإسرائيلية، (إذا ما استمرت الحرب)، بالمزيد من الهجمات البرية المنتقاة، لمحاولة استدراج حماس، أو إجبارها على القتال وجها لوجه، وفق تصميم المعركة الإسرائيلي، لاستنزاف مخزونها من العتاد أولا، ثم لتكبيدها أكثر ما يمكن من الخسائر، لأن شح العتاد في معركة كهذه أكثر خطورة من الخسائر البشرية بين المقاتلين. والمبدأ القائل إن الجيوش تزحف على بطونها، يعتبر العامل الأكثر حسما وتقييدا بالنسبة لحماس.
يبقى الأمل معلقا على قرار مجلس الأمن القاضي بوقف فوري للقتال، رفضه الطرفان حتى الآن، كسبا للوقت لا أكثر. فالإسرائيليون يريدون تحقيق نتائج أكثر تأثيرا على الأرض، فيما ترى حماس الفرصة مواتية لتعديل الموقف الميداني تحت معطيات الفشل المتبادل. خصوصا أن قرار مجلس الأمن قابل للفهم من زوايا مختلفة تماما، ويبقى تصريفه عملياً، أكثر أهمية من حبر البنود والفقرات المثبتة حتى الآن.
لم تقرر إسرائيل خوض الحرب لتراكم على جيشها علامات تحول سلبي في قدراته، لأن حجم الضحايا البشرية ليس مؤشرا صالحا لتعزيز عناصر القوة، بقدر ما يجلب من مشاكل إنسانية وسياسية وقانونية، وتحسب إسرائيل أن أي وقف للقتال على أساس متكافئ سيؤدي إلى تعقيد المشكلة، لذلك تريد تحويل القرار إلى عملية سياسية دولية، يجري بموجبها تجريد حماس من سلاحها بشكل جذري، عدا عدد محدود من سلاح الشرطة، وفرض رقابة وعمليات تفتيش على كل مستودعات السلاح، وجعل حركة المعابر خاضعة لتقييد صارم، وهذا ممكن تحقيقه من خلال القوات الدولية وما يمكن تضمينه في فقرات الاتفاق التفصيلي، الذي يجري بموجبه التوصل إلى اتفاق تنفيذي لوقف القتال.
من أهداف إسرائيل فرض أجواء نفسية، من خلال حملة إعلامية كبيرة، تشاركها فيها أطراف أخرى، فلسطينية..، لتحميل حماس مسؤولية قرار إلغاء التهدئة وما نتج من مآس بشرية، ومحاولة قلب الموقف الشعبي ضدها، وفق القاعدة التي أشار إليها الرئيس أبو مازن (إذا كانت المقاومة تؤدي إلى إفناء الشعب فلا نريدها)، على أمل أن تخسر حماس رصيدها الانتخابي لصالح السلطة الفلسطينية، التي ستكون مضطرة لممارسة دور حازم، في الحياة الفلسطينية. وإذا كانت السلطة الفلسطينية متحفظة في مواقفها، وحرصها على أخذ جانب إدانة العمليات الإسرائيلية، وتفادي تصعيد الانتقاد لحماس خلال الحرب، فإنها ستكون مضطرة للخروج على هذه الالتزامات.
وسيكون مفاجئا، إذا ما اتخذت إسرائيل قرارا بالانسحاب من مواقع مهمة داخل قطاع غزة على المدى المنظور من مرحلة ما بعد البدء بوقف القتال، وربما يكون طريق صلاح الدين الاستراتيجي، أحد مواقع البقاء. وطبقا لذلك، ستتوقف موافقة حماس على وقف القتال على مدى قدرتها على إدامة القتال، وهي قدرة لا شك متآكلة، لأسباب لوجستية قوية.
أما الموقف العربي والإقليمي، فقد بقي، كما بدأ على طرفيه الشعبي والرسمي، مبني على استنكار فعلي لضرب المدنيين، وعلى إصرار رسمي على رفع إيران يدها عن الشؤون العربية، وهذا يتطلب من حماس وقفة واضحة حيال إيران ومشاريعها، مفادها: نحن مع المحيط العربي بصرف النظر عن العتب على الموقف الرسمي العربي، وأن تقول لمصممي السياسة الإيرانية (لكم أهدافكم ولنا أهدافنا)، وسيكون وضعها أفضل لو قالت لهم (هذا فراق بيني وبينكم).
هكذا تبدو الحال معقدة، وقدر القيادات الناجحة تحمل المعاناة والتعقيدات وتحويلها إلى خطوات ناجحة، ولا قيمة تاريخية لنجاح في عملية ما من دون تعقيدات.