عبد المحسن تقي مظفر

يعقد في الكويت صباح اليوم الاثنين 19 يناير 2009 وعلى مدى يومين متواصلين، مؤتمر القمة الاقتصادية العربية، في ظروف اقتصادية وسياسية بالغة الخطورة والحساسية. ومن المنتظر أن يحضر هذا المؤتر البارز جميع القيادات العربية، ملوكا ورؤساء وأمراء، بالإضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون، والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، والأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية الدكتور أحمد الجويلي، وعدد آخر من المسؤولين عن المنظمات الاقتصادية والمالية العربية. وأعتقد أن حرص الكويت على انعقاد هذا المؤتمر (الذي أطلق عليه قمة الكويت الاقتصادية والتنموية والاجتماعية) في موعده المحدد من قبل، على رغم الظروف الصعبة المستجدة، يمثل شجاعة سياسية جديرة بالتقدير، ونتمنى له جميعا التوفيق في تحقيق الأهداف النبيلة المرجوة منه.

عندما بدأ التفكير بعقد قمة عربية اقتصادية متخصصة، بمبادرة حكيمة من صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد، أمير دولة الكويت، بهدف التركيز على القضايا الاقتصادية، التي ربما لم تكن تجد لها مكانا، أو وقتا ملائما لبحثها، من ضمن مؤتمرات القمة العربية العادية، لم يكن في الحسبان الظروف الاقتصادية الصعبة التي هيمنت على الاقتصاد العالمي منذ منتصف العام الماضي، بل إنه حتى الظروف السياسية المحلية والعربية كانت أكثر هدوءا واستقرارا مما هو سائد الآن. كانت أسعار النفط مرتفعة، والمؤشرات والتوقعات كانت توحي بأنها سوف تستمر في الارتفاع، وكان لدى الدول العربية المنتجة والمصدرة للبترول فوائض مالية كبيرة نتيجة لزيادة إيراداتها من القطاع النفطي، وكانت منطقة الخليج العربي تشهد ازدهارا ونموا في استثماراتها، والحديث يتردد عن الاستمرار في مشروعات عمرانية وعقارية واسعة، وفي الكويت كانت تطرح مشروعات نفطية ضخمة (مثل مشروع المصفاة الرابعة ومشروع الداو كيميكال اللذين دار حولهما جدل كبير في الأوساط المعنية بل وغير المعنية) صرف النظر عنها أو أجلت،على الأقل، إلى وقت آخر مناسب.

تغيرت الأمور كثيرا الآن.. عالميا وعربيا ومحليا، سواء في الجانب الاقتصادي والمالي، أو في الجانب السياسي. فالأزمة المالية التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية بمشكلات في الائتمان العقاري، تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية كبرى طالت جميع الدول بدرجات متفاوتة، وزلزلت البورصات العالمية جميعها، وهوت بأسعار النفط إلى ما دون ثلث مستوياتها السابقة، التي بنت عليها الدول المصدرة للبترول آمالا واسعة. ولم تكن الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه خاص بمنأى عن التأثر بتلك الاتجاهات السلبية المريعة. وفي الكويت اقتربت سوق الأوراق المالية من الانهيار، وواجهت شركات استثمارية مهمة صعوبات جمة، وربما كانت أزمة بنك الخليج نذيرا مبكرا، بما يمكن أن تؤول إليه الأحوال في المصارف الوطنية، إن لم يتم تدارك الأمر بصورة فاعلة وعاجلة.

أما في الجانب السياسي، فقد استجد كذلك، تطوران سلبيان على درجة كبيرة من الخطورة من شأنهما تشتيت الجهود التي كان من الأنسب استغلالها لإنجاح القمة الاقتصادية العربية، وتحقيق أهدافها المنشودة.

أول هذين التطورين السلبيين كان محليا كويتيا، تمثل في تدهور العلاقة السياسية بين مجلس الأمة والحكومة الكويتية أدى في النهاية إلى استقالة الحكومة، ومرور البلد لفترة طويلة نسبيا في حالة من الجمود السياسي وعدم الاستقرار. وفي رأيي أن ذلك كان بسبب تعنت بعض أعضاء مجلس الأمة، وتعسفهم في استغلال حقهم الدستوري، وإصرارهم على استجواب سمو رئيس الوزراء في أمور كان يمكن تفاديها، أو التهوين من تبعاتها السلبية بتوجيه الاستجواب إلى الوزير المختص بدلا من التصعيد السياسي بهدف تحقيق مكاسب شخصية. أعلم جيدا أن المادة 100 من الدستور الكويتي تتيح لكل عضو من أعضاء مجلس الأمة الموقر توجيه استجوابات إلى رئيس مجلس الوزراء، أو الوزراء عن الأمور الداخلة في اختصاصاتهم، فنص هذه المادة واضح تماما في هذا الشأن. ولكن، ألم يكن من الأوفق والأحكم الاكتفاء بتوجيه الاستجواب إلى وزير معني بالأمور التي أقحمت فيه، بدلا من التعالي واتخاذ موقف الندية مع رئيس الوزراء، في وقت كنا فيه أحوج ما نكون إلى الهدوء والاستقرار؟ أعتقد أنه ما من موضوع إلا وهو داخل في اختصاص وزير أو آخر، وحتى الأمور المتعلقة برئيس الوزراء نفسه، يمكن التوجه في أي استجواب بشأنها إلى وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء مثلا. هذا أمر قد يطول فيه الجدل والحوار، وليس مجاله هنا الآن، ولكني أتحسر على الوقت الثمين الذي ضاع منا نتيجة لتمادي البعض في هذه القضية، وإشغال الوطن والمواطنين بها.

أما التطور السلبي الآخر فهو عربي إقليمي يتمثل في الأحداث المأسوية الدامية التي تجري في غزة المنكوبة بعدوان إسرائيلي غادر وخارج عن كل مقاييس القيم الدولية المألوفة. قلت في مقالة سابقة لي منذ أسبوعين إننا جميعا - مهما اختلفت آراؤنا وتوجهاتنا الفكرية وانتماءاتنا السياسية - نحزن ونتألم وتعتصر قلوبنا لما يعانيه إخواننا في غزة تحت ظروف الاحتلال والعدوان الهمجي الذي تشنه قوى البغي والإرهاب، ولا نختلف في التنديد بهذا العدوان وتحميل المسؤولية الأكبر فيه على العدو الإسرائيلي، في دولة قامت أساسا على التمييز المذهبي والعنصري، خلافا للمبادئ الأساسية المعتمدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولكننا في حاجة ماسة إلى التفكير في الموضوع بصوت عال، وبمنطق العقل والموضوعية، وبعيدا عن التشنج والانفعال. هل كان بالإمكان تفادي هذا العدوان الرهيب الحالي على غزة؟ أو، على الأقل، هل كان بالإمكان التخفيف من هوله وبشاعته؟ ومن المسؤول عن تجاهل هذا المخرج المحتمل لإدارة الصراع في المنطقة؟ هل قدرنا حقيقة طاقاتنا ومقدرتنا الحالية في المواجهة، عندما تعنتنا في بعض مواقفنا تجاه العدو وتجاه بعضنا البعض؟ ألم يكن الأفضل لنا أن نتفق -كقيادات سياسية فلسطينية وعربية- على منهج أنسب وأقل تكلفة على مواطنينا -مدنيين وعسكريين- في غزة وعموم فلسطين؟ هنا أيضا أرى أن البعض منا لجأ إلى التعنت والمكابرة لتحقيق مكاسب سياسية حزبية، على حساب دماء مواطنين أبرياء، وبتدمير مدينة غزة وغيرها من مدن القطاع المنكوب.

لكن هذه التطورات السلبية جميعها -اقتصاديها وسياسيها- لم تحل دون التمسك بالالتزام بمؤتمر القمة الاقتصادية العربية والإصرار على عقدها في موعدها المحدد من قبل. بل إن بعض هذه التطورات المستجدة أكدت أهمية هذه القمة، وضرورة بحث القضايا الأساسية المدرجة عل جدول أعمالها واتخاذ القرارات الفعالة بشأنها، والالتزام بتنفيذها ضمن جدول زمني متفق عليه. ومن حق إخواننا الأعزاء في فلسطين علينا ومن واجبنا تجاههم، أن يفرز جانب من وقت القادة المجتمعين لمناقشة مأساة غزة الدامية، والاتفاق على السبل الكفيلة بوضع حد نهائي لمعاناتهم، ووضع مشروع عربي شامل لإعمار ما تهدم في غزة، وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار لأهلها.

قمة الكويت العربية الاقتصادية التنموية الاجتماعية مشروع عربي طموح، في ظروف حساسة دقيقة، نعقد عليها آمالا واسعة، متفائلين بمستقبل أفضل لوطننا العربي الكبير، مستقبل يسوده السلام الشامل والأمان الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.