د. محمد عابد الجابري
أبرزنا في المقال السابق كيف أن الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر -وفي مقدمتهم كانط- كانوا يرون quot;التقدمquot; يسير أمامهم على رجليه، مسرعاً الخطى، بفضل ما تحقق في أوروبا آنذاك من تقدم هائل على صعيد العلم وتطبيقاته (خاصة علم نيوتن الذي كان الأساس الذي أرسى عليه كانط فلسفته). وفي الوقت نفسه كانوا يلمسون التقدم السياسي الاجتماعي وهو يزحف زحفاً في فرنسا عصر الأنوار والثورة، تماماً كما أن التقدم الصناعي كان يسابق نفسه في إنجلترا. لقد كانت أوروبا آنذاك تعيش quot;التقدمquot; في مختلف مكونات حاضرها وعلى مستوى آفاق مستقبلها. أما ألمانيا فقد كانت آنذاك في مؤخر القافلة، وكان فلاسفتها أكثر وعياً لحقيقة التغيير الذي كان يحصل لدى جيرانها، فعاشوا على صعيد الحلم ما كانت تعيشه فرنسا وإنجلترا على صعيد الواقع، حسب تعبير ماركس. لقد عاشوا quot;التقدمquot; على صعيد الوعي الحالم. ولما لم يتبينوه في حاضر بلدهم بحثوا عنه في تاريخ أوروبا ككل، لا بل في التاريخ العام كله الذي أصبح منذئذ خاضعاً للمركزية الأوروبية.
ولعل القارئ يتساءل: لماذا هذا الاهتمام بألمانيا، وما الذي يجعلها تحضر بالبال؟ يمكن تبرير ذلك بكون مجال تفكيرنا يتحدد بإطار quot;الحوار العربي الألمانيquot;، غير أن الأمر أكبر من ذلك. فقد فرض النموذج الألماني نفسه، على كثير من مفكري العالم العربي، كمرآة يقرؤون فيها واقع بلدانهم وطموحاتها. كانت ألمانيا مجزأة فصاغت لنفسها نظرية في الوحدة القومية فحققت هذه الوحدة. وحلمت بـquot;التقدمquot; الذي كان يجري بجوارها فلحقت الركب وحققت في بلدها التقدم نفسه وبخطى أعمق وأسرع.
والعالم العربي الذي استيقظ على مدافع نابليون في حملته على مصر، والذي قطف من الوعود التي تلقاها خلال الحرب العالمية الأولى خيبة مريرة، إذ لم يجن من التحالف خلالها مع إنجلترا وفرنسا سوى تمزيقه إلى كيانات مصطنعة، في معظمها، ترزح تحت الهيمنة الاستعمارية. إن العالم العربي الذي وعى مفكروه وعياً عميقاً هذه الوضعية quot;المأساويةquot; وجد عزاءه، على صعيد الحلم الإيديولوجي، في التجربة الألمانية. وهكذا صيغت quot;نظرية الوحدة العربيةquot; على الأسس نفسها التي صيغت بها نظرية الوحدة في ألمانيا، (اللغة والتاريخ، يقول رائد الفكرة القومية العربية: إن quot;العناصر الأساسية في تكوين القومية هي وحدة اللغة ووحدة التاريخ، وما ينتج عن ذلك من مشاركة في المشاعر والمنازع، وفي الآلام والآمال (ساطع الحصري، كاتب رائد في الفكر القومي العربي، 1944).
هذا عن فكرة quot;الوحدةquot;، وهي مستنسخة من النظرية الألمانية. أما عن فكرة quot;التقدمquot; فقد قدم التقدم الملموس الذي حققته ألمانيا محركاً للأمل في تحقيق تقدم مماثل في بلاد العرب. وقد تعزز هذا الأمل بنوع من القراءة للتاريخ شبيهة بذلك الذي قام به كانط وهردر، مع مبالغة من جانب العرب في إسقاط حلم المستقبل على وقائع الماضي، ليخرج الفكر العربي من ذلك بشعار: quot;ما تحقق في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبلquot;!
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، على صعيد الحلم كما على صعيد الواقع هو التالي: لماذا لم ينجح العرب طوال القرنين الماضيين في تحقيق حلمهم النهضوي ذاك؟
إنه مهما يكن من أهمية العوامل الداخلية فإن المرء لا يملك إلا أن يلاحظ أن النهضة العربية التي تجسدت في تجربة محمد علي في مصر، في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، لم تجهض من الداخل، بل قُضي عليها بمدافع الاستعمار الإنجليزي. أما محاولة الشريف حسين والقوى الوطنية السورية والعراقية في تحقيق وحدة المشرق العربي في دولة واحدة، في مستهل القرن العشرين، فقد قضت عليها عملية تقسيم غنائم الحرب العالمية الأولى بين إنجلترا وفرنسا. كما أن التحالف الاستعماري بين فرنسا وإسبانيا قد قضى على الحركة الدستورية في المغرب في المهد، أوائل هذا القرن، كما قضى على الأمل الذي جسدته ثورة ابن عبدالكريم الخطابي في التحرر من الاستعمار وبناء دولة حديثة. ومن الممكن النظر إلى تجربة جمال عبدالناصر من هذا المنظور نفسه: إن العدوان الثلاثي عام 1956 كان إنذاراً quot;تاريخياًquot; توالت بعده إنذارات مماثلة، تنبه العرب ودول العالم الثالث، بواسطة أكثر الأسلحة العسكرية تطوراً، إلى أن الوحدة العربية وتقدم الدول التي في طريق النمو أمران يتناقضان مع مصالح quot;الدول الكبرىquot;، وأن هذه الأخيرة لن تترد في استعمال جميع الوسائل لعرقلتهما...
هنا تنفصل التجربة العربية في مضمار السعي نحو quot;الوحدة والتقدمquot; عن التجربة الألمانية. إن دور العوامل الخارجية مختلف تماماً هناك عنه هنا. لقد حققت ألمانيا حلمها فتم لها بذلك quot;تحرير المستقبل من الماضي والماضي من المستقبلquot;. أما في العالم العربي فقد بقيت قضية quot;الوحدة والتقدم فيهquot; هدفاً دائماً لمدافع وصواريخ الغرب الاستعماري. ولما قَمَعت الأطماع الاستعمارية والمصالح الإمبريالية محاولات القوى الوطنية العربية التي كانت تقودها البورجوازية الناشئة، قبل منتصف الخمسينيات من القرن الماضي (محاولاتها في تحقيق التقدم والوحدة)، جاء رد الفعل من شباب الطبقة الوسطى والفقيرة في الجيش فكان حكم العسكر الوطني. ولما ضرب هذا البديل من طرف القوى الاستعمارية أيضاً جاء رد الفعل في صورة quot;صحوة إسلاميةquot;. فليس غريباً إذن أن يهرب بعض الناس إلى الماضي، الوطني منه والديني، يقرؤون فيه مستقبلهم، ثم يعيدون صنع هذا المستقبل في وعيهم بالصورة التي تمكنهم من مواصلة الحلم.
في هذا السياق تفرض العولمة نفسها كواقع وكإيديولوجيا؟
لقد سبق لنا أن أبدينا رأينا في الموضوع في كتابات منشورة، منذ أن رفع شعار العولمة في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي (انظر مثلا كتابنا: quot;قضايا في الفكر المعاصرquot;. كانت الإشكالية التي طرحناها في ذلك الوقت تتلخص في السؤال التالي: quot;هل سيتغير الوضع -وضع المستقبل في علاقته بالماضي- في عصر ما يدعى الآن بـquot;العولمةquot;؟
وكان جوابنا، بكلمات موجزة- إن quot;العولمةquot; تعني جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود هنا هو أساساً الدولة الوطنية التي تتميز بحدود جغرافية وبمراقبة صارمة على مستوى تبادل البضائع مع الخارج، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل أجنبي سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللامحدود فالمقصود به العالم: الكرة الأرضية. وإذا نحن أخذنا بهذا التحديد لـquot;العولمةquot; فإنه سيكون بالإمكان أن quot;نحلمquot; بأن الإشكالية التي شغلتنا ستجد حلها -النظري- السريع والتلقائي في نظام العولمة هذا! ذلك أن إلغاء الدولة الوطنية (والثقافة الوطنية عنصر مركزي فيها) هو quot;الطريق الملكيةquot; لتحرير رؤية المستقبل من تحكم الماضي، وأيضاً لتحرير تصور الماضي من تأثير أحلام المستقبل. لقد أظهرت الفقرات الماضية بما فيه الكفاية كيف أن الهاجس الوطني، هاجس quot;الوحدة والتقدمquot;، هو الذي يدفع الشعوب إلى إعادة بناء الماضي على صعيد الوعي بصورة تجعل تحقيق حلم المستقبل يأتي نتيجة طبيعية لـquot;الصيرورة التاريخيةquot;، لـquot;منطق التاريخquot;! لكن السؤال الواقعي -وليس الحالم- الذي يطرح نفسه هو التالي: هل يمكن الوصول يوماً إلى عولمة بهذا المعنى، أي إلى عالم يخلو من الشأن الوطني الذي يتحدد أساساً بالجغرافية والتاريخ والثقافة؟