منار الشوربجي

من أخطر ما حدث في عهد بوش هو ذلك التنامى الخطير لدور العسكريين في السياسة الأميركية. فالعسكرة لم تقتصر على السياسة الخارجية الأميركية وإنما طالت المجتمع الأميركي نفسه.

أما عسكرة السياسة الخارجية الأميركية فلها معنيان. الأول هو تراجع الدبلوماسية واستخدام القوة العسكرية كأداة أساسية من أدوات السياسة الخارجية الأميركية وليس كملجأ أخير بعد فشل الأدوات الأخرى. والمعنى الثاني هو تنامي دور وزارة الدفاع في صنع السياسة الخارجية الأميركية على حساب دور الهيئات الأخرى وعلى رأسها وزارة الخارجية. وقد تحقق الأمران معا في عهد بوش.

ففكر المحافظين الجدد الذي نبعت منه رؤى إدارة بوش للعالم يقوم في جوهره على ضرورة هيمنة أميركا على العالم ومنع أي مقاومة لتلك الهيمنة حتى ولو باستخدام القوة العسكرية.

وقد رأينا جميعا ما كان يعنيه مذهب laquo;الصدمة والرعبraquo; فالهدف من الاستخدام المفرط للقوة العسكرية هو إصابة أعداء أميركا وخصومها بالصدمة على نحو يلقي الرعب في قلوب كل من تسول له نفسه مقاومة الهيمنة الأميركية.

وقد أدى ذلك الفكر إلى تحويل الإمبراطورية الأميركية إلى إمبراطورية على النمط التقليدي أي صاحبة جيش نظامي يمثل قوة احتلال مباشر لأراضى الغير بعد أن كانت إمبراطورية تعتمد على امتلاكها لقواعد عسكرية في كافة أرجاء المعمورة وامتلاك أدوات هيمنة غير تقليدية.

لكن فضلا عن احتلال أميركا المباشر لبلدين كبيرين بحجم العراق وأفغانستان، فلعل السياسة الخارجية الأميركية تجاه أفريقيا مثال ممتاز على عسكرة السياسة الخارجية الأميركية بالمعنى الثاني أي تصاعد دور وزارة الدفاع على حساب الهيئات التنفيذية الأخرى. فقد تم التوسع في دور الجيش الأميركي في أفريقيا والذي تم تتويجه بإنشاء مركز للقيادة العسكرية (أفريكوم) في أفريقيا.

والهدف المعلن لأفريكوم هو تعزيز الأمن في أفريقيا وذلك عبر إرسال الجنود الأميركيين للقيام بأعمال مثل توفير المساعدات الإنسانية والقيام بخدماتها فضلا عن القيام ببعض الأدوار الدبلوماسية. وقد أصرت إدارة بوش طوال الوقت على أن الهدف من كل ذلك هو مساعدة شعوب القارة عبر توفير الأمن لهم.

غير أن هذا الهدف المعلن يثير الكثير من الريبة ولا يمكن تصديقه لأنك لا تساعد الشعوب عن طريق إرسال الجيوش. ثم ما الداعي لأن يتولى البنتاجون مسؤوليات تقديم الخدمات الإنسانية بدلا من هيئة المعونة وما الذي يجعلها هي التي تقوم بأعمال الدبلوماسية في القارة بدلا من وزارة الخارجية؟

وماذا عن السيطرة على البترول ومواجهة النفوذ الصيني في أفريقيا؟ القضية باختصار أن إنشاء تلك القيادة كان معناه عسكرة السياسة الخارجية الأميركية.

لكن المسألة لم تقتصر على عسكرة السياسة الخارجية وإنما امتد الأمر ليشمل عسكرة السياسة الداخلية بل والمجتمع الأميركي نفسه. ففي عهد بوش لعب ديك تشيني بل ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد دورا بالغ الخطورة في تطعيم المؤسسات السياسية المختلفة مثل وزارة الخارجية وبشكل منظم بالعسكريين وكان الهدف من ذلك هو دعم رؤية وزارة الدفاع في القضايا المختلفة من داخل تلك المؤسسات نفسها.

ورغم أن التنافس بين وزارتي الخارجية والدفاع ليس جديدا إلا أن ذلك التنافس تحول إلى صراع غير مسبوق في عهد بوش مالت فيه الكفة بشدة لصالح وزارة الدفاع. ولا يزال هناك الكثير من الموالين لبوش ورامسفيلد وتشيني يحتلون الكثير من المواقع التنفيذية من بين قيادات الصف الثاني في الكثير من الهيئات التنفيذية.

بل أكثر من ذلك اتضح أن وزارة الدفاع صارت تلعب أدوارا غير مسبوقة داخل المجتمع الأميركي نفسه. فعلى سبيل المثال كان وولفوويتز وهو من عتاة المحافظين الجدد قد أنشأ حين شغل منصب نائب وزير الدفاع قاعدة بيانات أطلق عليها اسم laquo;تالونraquo; هدفها مكافحة الإرهاب عبر متابعة الجماعات laquo;ذات الصلة بالإرهابraquo;.

غير أنه تبين لاحقا أن إحدى الهيئات الاستخباراتية التابعة لوزارة الدفاع قد كلفت بالتجسس على عدد من اجتماعات منظمات مناهضي الحرب وتم إدراج المعلومات التي تم جمعها في قاعدة بيانات تالون تحت عنوان بالغ الدلالة هو laquo;وقائع مريبةraquo; !

ومن الجدير بالذكر أن منظمة laquo;متحدون من أجل السلام والعدلraquo; الأميركية المعروفة كانت من بين المنظمات التي تعرضت للمراقبة والتجسس.

وهى بالمناسبة منظمة تمثل مظلة تنضوي تحتها 13 ألف جمعية ومنظمة محلية غير حكومية في طول البلاد وعرضها اتحدت وقررت العمل معا من أجل مناهضة احتلال العراق. بعبارة أخرى، فإن الخطورة هنا مركبة فمن ناحية تم التجسس على منظمات معارضة للسياسة الرسمية بدعوى مكافحة الإرهاب.

ومن ناحية أخرى فإن الذي يقوم بذلك هو وزارة الدفاع وليس أى من الهيئات التابعة لوزارة العدل. غير أن الأخطر من هذا كله هو ما أعلن مؤخرا من أن البنتاجون ينفذ خطة لنشر 20 ألف جندي أميركي داخل حدود أميركا نفسها بهدف مساعدة المسؤولين في المحليات على مواجهة خطر الإرهاب.

لكن الحقيقة أن نشر هذا العدد الضخم من العسكريين يلغي الخط الفاصل بين أدوار الشرطة وأدوار العسكر إذ من الوارد أن يقوم الجيش بأدوار مثل جمع المعلومات ومراقبة الحدود وهى أدوار محظور على الجيش وفق القانون الأميركي نفسه القيام بها.

بعبارة أخرى فإن عسكرة السياسة الداخلية والخارجية على السواء صارت من أهم ما سوف يرثه أوباما من بوش. إلى أي مدى سوف ينجح أوباما في تفكيك ذلك الإرث الخطير؟ هذا هو ما سوف تسفر عنه السنوات القادمة.