محمد العربي المساري

لم تكن حرب إسرائيل على غزة سوى حملة انتخابية، لا يميزها إلا أنها الأكثر دموية في التاريخ. وأعود إلى القول إنه ليست لإسرائيل سياسة، بل إن لها فقط حملة انتخابية رهاناتها محصورة في تسابق القادة على إثبات القدرة على الفتك والتحطيم.
وإذا كانت الحصيلة الآن هي ما يزيد على 1100 جثة وقرابة 5000 جريح، والعشرات من المرافق قد تحطمت، فإن استطلاعات الرأي التي نشرت يوم الخميس في جريدة laquo;هآرتزraquo; تشير إلى أن حزب المرشحة للوزارة الأولى كاديما، لم يحقق تقدما كما كان يشتهي، بل سيتقهقر بـ4 مقاعد، بينما أصبح في إمكان وزير الدفاع (حزب العمل) أن يتطلع إلى كسب 4 مقاعد، ونفس القدر من المقاعد الجديدة قد يغنمه الليكود.
ولا يخفى أن كل السياسيين الإسرائيليين قد ركبوا موجة العنف الأخيرة أملا في تحسين مواقعهم الانتخابية في الاقتراع الذي سيجري يوم 10 فبراير القادم. ونشرت مؤخرا نتائج استبارات متعددة، دلت أولاها في 20 نوفمبر الماضي على أن الليكود، معززا بكتلة اليمين، مبشر بنيل 56 مقعدا. وبعد ذلك بشهر ارتفعت حظوظ الليكود بمفرده إلى 31 مقعدا. وانخفضت حظوظ كاديما (حزب وزيرة الخارجية) إلى 25 (أي - 4). وأما حزب العمل فلم تزد حظوظه على 11 مقعدا. وبعد يومين من نشر تلك النتائج بدأت المجزرة، لأنه كان لا بد من تحسين تلك الموازين.
وظلت نتائج الاستبارات التي أجريت بصفة مواكبة للحرب العدوانية تسجل على الدوام تفوق كتلة اليمين التي وصلت في أحد الاستطلاعات إلى 66 مقعدا في مقابل 44 لكتلة اليسار، وذلك يوم 25 ديسمبر. وبدا أن ذلك التوزيع كان يتطلب المزيد من الجثث، نعرف الآن أن نصفها يعود إلى أطفال ونساء.
وخارج الحلبة التي جرت فيها هذه الحملة الانتخابية الفتاكة، كان يتردد منطق غريب، كان هناك من يتقبله، وهو أن الحرب التي شنتها إسرائيل لن تتوقف إلا حينما يتوقف سبب إشعالها، وهو عشرات القذائف التي تطلق من شمال القطاع. ووجد من يسمع هذا laquo;المنطقraquo;. وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي يتبجح قادتها بمثل ما صرحت به وزيرة الخارجية، وهو أنه ليس لأحد الحق في أن يمنع إسرائيل من الدفاع عن نفسها بالطريقة التي تراها مناسبة. وقالت الحكومة الإسرائيلية وساسة وكتاب إسرائيليون، ردا على نداءات من مجلس الأمن، وأخرى تعالت بها أصوات مشفقة، دعت إلى البحث عن سبل التهدئة، إن من يضر بأمن الإسرائيليين، يجب أن يدفع الثمن الذي تحدده هي بمقاييسها، مهما بدا هذا الثمن قاسيا ومرتفعا. وكان الرهان الواضح، في هذه المرة، كما في السابق، هو إظهار أن التدمير والقتل بأفظع الأسلحة فتكا، وبأوسع مدى ممكن من التدمير، هو ما سيحدث كل مرة يتجرأ فيها أحد على معاكسة laquo;السلامraquo; كما تفترضه إسرائيل.
إن تصميم إسرائيل واضح جدا، على أن أي هدف تحدده هي لعملية عسكرية تقررها، هو بالنسبة إليها هدف مشروع. إنها تتحدث اليوم عن إيران، وأمس عن عراق صدام، ومن أجل ضرب laquo;هدف مشروعraquo;، شنت منذ وقت قريب غارة على سوريا. وهي تقول إن الشر هو حماس، في الوقت الذي قبلت فيه هذه المنظمة حدود 67، وهو ما كانت تقوله عن م. ت. ف. التي وصلت معها إلى توقيع اتفاقات شهد عليها العالم بأسره.
وتقول إنها تقبل التهدئة في غزة إذا ما قدمت ضمانات للحيلولة دون إدخال السلاح، وهو ما رددته حينما فرضت عليها الظروف أن توقف الحرب المدمرة التي شنتها على لبنان.
بهذا السلوك تصنع إسرائيل بنفسها أسلحة الدمار الشامل التي ستـعصف بها، ذلك أن العنف الذي يستهدفها سببه هو الاحتلال، واحتلالها هذا مستمر، وهي تعلن بكل الأساليب أنها لن تقلع عنه. وسيزداد هذا الاحتلال شراسة، لأنها ستحاول استئصال المقاومة التي يبديها المحتلون. ولن يقبل المحتلون الجدار ولا المستوطنات ولا الحصار، وبالطبع لن يقبلوا الاستسلام. فهذا شعب يقاوم منذ تسعين عاما.
ولن يقبل منها العالم كل الغطرسة التي تبديها، ولن يساير كل مرة منطقها الاستثنائي الذي يفترض أن الملف الإسرائيلي هو الوحيد الذي يجب أن لا تطبق عليه مفاهيم ومبادئ الشرعية الدولية. لن يقبل العالم دائما أن تبقى إسرائيل مطلقة الإرادة لتتولى بمفردها تحديد الأهداف التي تضربها، وأن تستعمل الأسلحة التي تحلو لها، وأن تقرر هي وحدها الطريقة التي تعاقب بها من يلحق الأضرار بأمنها.
لقد واجهها صحافيون في واشنطن يوم السبت، بجرأة لم يكن معتادا أن يواجه بها مسؤول إسرائيلي تحيط به عناية إيمباك. وانبرى العديدون من مؤيدي إسرائيل المعتادين إلى انتقاد فساد المنطق الذي تروجه إسرائيل لتبرير طلب التعامل معها، بمنطق استثنائي لا يتماشى مع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، ولا يلتزم بالاتفاقات التي توافق عليها هي نفسها في وقت من الأوقات.
إن يهود العالم لم يعودوا قادرين على أن يؤيدوا بنفس العزم كل السياسات الإسرائيلية، ببساطة لأن تلك السياسات تطلب منهم التضحية بالأسس التي تضمن لهم هم أن يعيشوا في مجتمعاتهم باطمئنان. ولا يستثنى من ذلك يهود الولايات المتحدة الذين لم يعودوا يبدون نفس laquo;الإجماعraquo; الذي تجيشه اللوبيات الفعالة ذات الكلمة العليا في واشنطن.
ولعل ما يحدث في الغرب عموما، لا في الولايات المتحدة وحدها، هو ما سجله توماس فريدمن، منذ نحو عشرين عاما في كتاب كنت قدمت فصلا منه بالكامل لقراء laquo;الشرق الأوسطraquo; في وقته laquo;من بيروت إلى القدسraquo;. وكان هذا الصحافي اليهودي الأميركي قد سجل أنه في الوقت الذي ساد فيه التجييش لفائدة إسرائيل في أميركا إثر حرب الستة أيام، فقد تزايد أيضا تمسك اليهود الأميركيين، بالقيم التي تضبط التعايش في مجتمعهم، وبالاستقرار فيه.
ووصف بأسلوبه الخاص حالة ميل هذه الفئة إلى إسرائيل قائلا: laquo;لقد وقعت خطبة لكن لم يعقبها زواجraquo;. وفسر ذلك بأن تمادي إسرائيل في سياسة المستوطنات وسوء معاملتها لأقلياتها، ينفر اليهود الأميركيين، لأنهم يرون، ببساطة، أن تأييد سياسة إسرائيل يجرهم إلى التنكر لما يطالبون به هم، كأقلية في مجتمع يقوم على الحرية والتعددية وحقوق الإنسان.
ويذكر كيف أنه اصطدم بإسرائيل الحقيقية حينما عايشها عن قرب، ووجد بونا شاسعا بين ليبريالية يهود أميركا، وتحجر الإسرائيليين الخاضعين لأسوا شريحة من المتشددين.
ومعلوم أن هؤلاء يمارسون في السياسة الإسرائيلية دورا ابتزازيا. إن الأحزاب الكبرى لا تتمكن من تكوين حكومات ائتلافية دون اللجوء إلى هؤلاء المتكتلين في الأحزاب الدينية الصغيرة، التي تتحكم في التوازنات التي لا غنى عنها منذ قيام إسرائيل.
ومن جراء استشراء الغلو في الخطاب السياسي الإسرائيلي، يسيطر منطق العنف الذي غدا لصيقا بطبيعة النسق السياسي القائم. وفي ظله يقع التسابق على نيل الصوت المزايد، الذي يرسخ في الأذهان أن إسرائيل لا يمكن لها أن تخسر أي حرب تخوضها، ببساطة لأنه حينما تخسر حربا سيكون في ذلك نهايتها. ومعلوم أن هذه العقيدة تكيف مؤيدي إسرائيل في الغرب، وتجعل عنفها مبررا.