سعيد حارب

خلال الأسبوعين الماضيين عاش أهل الخليج حدثا رياضيا إقليميا هو الدورة التاسعة عشرة لكأس الخليج في مسقط في سلطنة عمان الشقيقة، وكان للحدث أن يمر كغيره من الأحداث الرياضية، لكن ما صاحب الدورة من أحداث وصفها البعض بالمؤسفة، يشير إلى أن هناك مياه فتنة تجري تحت الأقدام، وليست أحداث دورة الخليج إلا صورة لما يمكن أن يتطور إلى فتنة بين أبناء المنطقة، إذ تمت مواجهات بين بعض الجماهير المؤيدة لكل فريق، وانتقلت لتصبح وكأنها مواجهة بين طرفين خصمين، فقذف بعض المشجعين جمهور دولة أخرى بالحجارة، وتم الترصد لهم على الطرقات وهشمت بعض السيارات -كما نقلت بعض الصحف- وقيل إن أعلاما لدول خليجية أحرقت، أو وضعت تحت إطارات السيارات. وأرجو أن يكون هنا خطأ في القول أو النقل، أو أن ما قيل لا أساس له من الصحة لأننا لا نرغب في صور كهذه الصور التي تؤسس لفتنة بين أبناء المنطقة. وعلى الرغم من أن السلطات المختصة في سلطنة عمان لم تدخر وسعا في مواجهة هذه الحالات الغريبة على المنطقة، إلا أن البعض لا يقدر هذه الجهود، ولا يقدر عواقب التصرفات التي يغذيها الشحن الإعلامي laquo;الموتورraquo;.

فقد دعاني أحد الأصدقاء لمشاهدة بعض هذا laquo;الشحنraquo; على موقع شبكة الإنترنت، وحرصت بعد ذلك على متابعة بعض البرامج الرياضية، فاستمعت إلى تجريح ومهاترات انتقلت من المواقف الشخصية إلى المواقف الوطنية، وكأن المتحدثين يعيشون حربا بين دولهم. ولعل أحدا يقول إن هذه الحالة لا تتجاوز بعض ما يعتري المباريات والدورات الرياضية من تعصب أعمى، سريعا ما تزول آثاره في نهاية الحدث. لكن الواقع يشير إلى أن هذه المظاهر ليست إلا جبل الجليد الذي يطفو على السطح، إذ أن هناك أكثر من مؤشر على وجود بوادر فتنة لابد من رصدها ومعالجتها، فقد حملت الأيام الماضية laquo;مهاترات شعريةraquo; بين بعض laquo;أدعياء الشعرraquo;، إذ قام أحدهم بهجاء إحدى الدول الخليجية بقصيدة، فرد عليه شاعر من تلك الدولة بقصيدة لم تخل من سيئ الكلام وقبيحه في روح من الهجاء المقيت الذي تعافه النفس الأبية، ما يشير إلى أن البعض لا يعير معاني الأخوة والقربى والعلاقات بين الدول أي اعتبار، أو تقدير، وأن سنوات طوال من التعاون الخليجي لم تكن كافية لزرع الاحترام، عدا عن المحبة بين بعض أبناء المنطقة.

ولعل المتصفح لبعض المواقع الإلكترونية وبعضها يتصف بالثقة والموضوعية يجدها لا تتورع عن نشر أخبار ومقالات وتعليقات لا تخلو من التفرقة أو الاستهزاء أو الشماتة ببعض دول الخليج لأسباب يرجع بعضها للخلاف السياسي، أو بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، وكأن البعض كان ينتظر سببا لهذه الشماتة، أو إبراز العيوب في أشقائه الذين طالما تغنت وسائل الإعلام بالروابط التي تجمعه بهم.

إن علماء الاجتماع وأساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين من أبناء المنطقة والمقيمين فيها مدعوون لدراسة هذه الظاهرة وتحليلها وعرض الحلول المناسبة لها، فهذه الظاهرة وإن بدت صغيرة وغير ملاحظة، إلا أنها تشير إلى أن هناك من يزرع بذور الفتنة بقصد أو من دون قصد. ولعل قول الشاعر العربي: أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضراما

خير تعبير عن هذه الحالة، التي برزت خلال السنوات الأخيرة بصورة واضحة تغذيها جملة من الأسباب، لعل من أبرزها عدم تبلور فكرة التعاون بين دول الخليج بصورة واضحة. فقد علقت شعوب المنطقة آمالا كثيرة على مجلس التعاون عند نشأته، وتوقعت أن يحقق لها الكثير من الخطوات التي تتقدم بها نحو الوحدة الخليجية، كما نص على ذلك ميثاق المجلس، إلا أن حصيلة تسع وعشرين سنة من التعاون لم ترق إلى الطموحات التي تتطلع إليها شعوب المنطقة، وتحولت مشاريع التعاون ومناسباته إلى ذكريات واحتفالات سياسية أكثر من كونها وقائع حقيقية يلمسها المواطن الخليجي في حياته اليومية، وما تحقق بين دول المنطقة من مشروعات وبرامج تم على المستوى الثنائي، أو البرامج بين كل دولة وأخرى، وليس نتاج عمل خليجي مشترك، ما جعل فكرة التعاون والتقارب بين دول المنطقة تتراجع في مخيلة الخليجيين،

وصاحب ذلك ارتفاع في وتيرة الدعوات القُطرية والمحلية بصورة واضحة، فوسائل الإعلام المحلية تبرز laquo;الخصوصيةraquo; لكل دولة وارتفع شعار laquo;أنا أولاraquo; في صورة تجسد العزلة والانفراد، ولايرد الخطاب الخليجي لديها إلا في المناسبات الرسمية، أو إذا استدعى الأمر ذلك، فلا تجد فيما تقدمه وسائل الإعلام أي اهتمام بالشأن الخليجي الذي يقدمه مثلما يقدم أي برنامج عن أي دولة أخرى، بل لعبت بعض هذه الوسائل وبخاصة المملوكة للقطاع الخاص دور laquo;المحرضraquo; على الفتنة طلبا للإثارة، أو لمزيد من جذب الجمهور والإعلانات التجارية، حتى ولو كان ذلك على حساب الترابط بين أبناء المنطقة،

ولعل من أسباب هذه الظاهرة كذلك غياب البرامج المشتركة التي تؤكد الترابط بين دول المنطقة، فبرامج التعليم التي كان يراد لها أن تؤسس جيلا متقاربا، إن لم يكن موحدا من أبناء الخليج، تراجعت عما كانت عليه منذ سنوات، فقد بذلت المؤسسات التربوية المشتركة كمكتب التربية العربي لدول الخليج، وقطاع البيئة والإنسان في مجلس التعاون الخليجي وجامعة الخليج العربي وغيرها من المؤسسات جهودا كبيرة للتقريب بين برامج ومناهج التعليم في دول المنطقة، وتم توحيد بعض المناهج التعليمية وبخاصة في الرياضيات والعلوم في بعض المراحل. كما تم وضع قدر مشترك في معظم المناهج لكل دول المنطقة، إلا أن هذه الجهود تراجعت عما كانت عليه وانفردت كل دولة لتؤسس لها طريقا ذاتية في ميدان التعليم الذي قد يلتقي أو يختلف عن الطريق الخليجية المشتركة، على الرغم من أن التعليم يعد المدخل الأول في تكوين شخصية الإنسان، وعزز ذلك كله الخلافات في المواقف السياسية بين بعض دول المنطقة، ما رسخ حالة الانفراد والعزلة لكل دولة.

ومن هنا فإن البحث عن طريق جديدة لتعزيز العمل الخليجي لن يكون مجالا للعمل المشترك فقط، بل سيكون جدارا يقف أمام الفتن كافة التي قد تعصف بالمنطقة، ولعل في مقدمتها الفتن الداخلية التي تجد من يغذيها بقصيدة، أو مقال، أو حتى بمباراة رياضية.