السيد يسين

قرار إسرائيل بوقف إطلاق النار من طرف واحد، يُسدل الستار مؤقتاً على مشهد الحرب البربرية التي مارستها الدولة الإسرائيلية العنصرية بكل قواتها العسكرية. ضد شعب أعزل لا تمتلك طلائعه المقاومة سوى بضع صواريخ تطلقها بين الحين والحين من دون دمار يذكر.

لقد كشفت الحرب هذه المرة على وجه الخصوص عن أن الصراع العربي الإسرائيلي وصل إلى درجة من التعقيد والتشابك غير مسبوقة. فقد تعددت مواقف الصراع، وبرزت خلافات شديدة بين أطراف عربية شتى، وأسفرت الولايات المتحدة الأميركية عن وجهها الحقيقي باعتبارها الحليف الرئيسي لإسرائيل، التي أعطت الضوء الأخضر لحرب إسرائيل، والتي هدفها إبادة الشعب الفلسطيني.

وظاهرة الصراع المركبة تحتاج إلى تفكيك، حتى نستطيع أن نضع أيدينا على القوى السياسية التي تحركه، سواء بصورة صريحة أو من وراء ستار!

ولنبدأ أولاً بمشهد الحرب الكاسحة التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، بزعم أنها تدافع عن نفسها ضد صواريخ quot;حماسquot;، التي تنطلق بصورة عشوائية بين الحين والآخر.

إن إسرائيل بذلك تتجاهل صلب القضية وتهرب إلى متاهات فرعية بعيدة عن أصل الصراع. إسرائيل دولة محتلة ndash; احتلت - بشكل غير مشروع الضفة الغربية وغزة. وحتى باعتبارها دولة احتلال فهي لم تقم بما يفرضه عليها القانون الدولي من التزامات متعددة إزاء الشعب المحتل.

وأبعد من ذلك خطراً أنها مارست حصاراً غير مشروع ضد غزة، ومنعت عنها إمدادات الوقود والغذاء وحتى الدواء. قامت الحرب مؤيدة بتصريحات من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وأركان إدارته، من أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها. وذلك فيه ما لا يخفى من التزييف والخداع، لأن قضية الاحتلال الإسرائيلي لم تطرح، وكذلك لم تعرض محاولات إسرائيل إجهاض كل مفاوضات تؤدي إلى حل الصراع، بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

وقد لفت الأنظار بشدة أنه قبيل إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار من طرف واحد، سارعت وزيرة خارجية إسرائيل إلى الولايات المتحدة الأميركية لكي توقع مذكرة تفاهم مع كونداليزا رايس وزيرة الخارجيةالسابقة ، مضمونها ترتيبات أمنية في البر والبحر والجو تضمن عدم تهريب السلاح إلى quot;حماسquot;. وزاد من تطرف هذا الاتفاق أن حلف الأطلنطي سيدخل شريكاً في هذه المذكرة، والتي بما نصت عليه من إجراءات فيها اعتداء على القانون الدولي. لأنها تنص على حق الولايات المتحدة وإسرائيل في إيقاف أي سفينة في أعالي البحار لتفتيشها للتأكد من أنها لا تحمل أسلحة مهربة.

وكرد فعل لهذه الأفكار الأمنية التي تهدف ليس للدفاع عن أمن إسرائيل ولكن لتهديد الأمن القومي العربي، صرح الرئيس حسني مبارك في خطابه الذي وجهه للأمة من أن مصر لن تقبل أي وجود أجنبي على أرضها، مهما كانت المبررات الأميركية أو الإسرائيلية.

ومعنى ذلك كله أن الولايات المتحدة الأميركية بالتوقيع على مذكرة التفاهم مع إسرائيل، إنما تعقد حلفاً غير مقدس، يجعل الدولة العظمى الحارسة لإسرائيل والداعمة لكل مخططاتها التوسعية، والمدافعة عن حروبها غير الشرعية ضد الشعب الفلسطيني.

وأضيفت لظواهر الصراع المعقدة هذه المرة حملة عربية موجهة ضد مصر لتشويه موقفها، قامت على أساس مزاعم باطلة، وتضمنت مطالبات عشوائية بفتح المعابر من دون مراعاة لأساسيات الأمن القومي المصري، والتي لا يمكن المساس بها بناء على مظاهرات غوغائية هنا وهناك، وخصوصاً في الدول التي لم تقدم شيئاً لدعم القضية الفلسطينية.

مصر منذ أن دخلت الحرب لتحرير شعب فلسطين من العصابات الصهيونية عام 1948، لم تتوقف أبداً في أي مرحلة عن دعم الشعب الفلسطيني والدفاع عن قضيته العادلة.

ومن هنا فإن المنظر كان غريباً أن يتصدى لتشويه الموقف المصرى القاعدون في بيوتهم، والسياسيون الذين يعملون لحساب أنظمة سياسية عربية أو شرق أوسطية معروفة، والذين قنعوا برفع الشعارات الزاعقة من باب المزايدة على الموقف المصري.

ومما يؤكد هذا السلوك الصراع الذى دار حول quot;القممquot; العربية، ومحاولة قطر اختطاف دور مصر أو السعودية، بالدعوة إلى قمة في الدوحة، بالرغم من أن هناك قمة اقتصادية كانت مقررة في الكويت، وكان من الأنسب الانتظار حتى تنعقد، وتبحث قضية العدوان على غزة في جلسة من جلساتها.

غير أن قطراندفعت لعقد قمة لم يكتمل النصاب بصددها، وقررت أن تنعقد بمن يحضر، والأخطر من ذلك أن يدعى لحضورها الرئيس الإيراني.

ومعنى هذه الخطوة الخطرة أن قطر تحاول ndash; بناء على مخطط جاهز ndash; تحويل النظام الإقليمي العربي ليصبح نظاماً شرق أوسطياً، كما كانت تدعو لذلك الولايات المتحدة الأميركية. ومعنى ذلك أن تتغير طبيعة عضوية جامعة الدول العربية، فلا تقتصر على الدول العربية، وإنما تضم إليها أطرافا إقليمية أخرى مثل إيران وتركيا بل وإسرائيل!

وإذا تأملنا مشهد الانقسامات العربية بصدد quot;القممquot; العربية، فإن ذلك يذكرنا بما أطلق عليه عالم السياسة الأميركي quot;مالكوم كيرquot; من قبل quot;الحرب الباردة العربيةquot;، التي دارت بين الدول التقدمية والدول الرجعية.

اليوم تظهر شعارات مماثلة للتفرقة بين دول quot;الاعتدالquot; ودول quot;الممانعةquot;! ويذكرنا ذلك أيضاً quot;بجبهة الصمود والتصديquot; التي شكلتها العراق وسوريا ودول عربية أخرى ضد مصر، عقب التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية.

كانت هذه الجبهة تخطط لعزل مصر عربياً، غير أنها فشلت في تحقيق أهدافها، بل إن أحد أقطابها وهي سوريا لم تستطع حتى الآن أن تحرر الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، ولم تطلق طلقة واحدة على إسرائيل، ومع ذلك فهي من أعلى الأصوات الناقدة لدور مصر في حل الصراع العربي الإسرائيلي.

ورغم تعدد هذه المشاهد الإسرائيلية والأميركية والعربية التي أسهمت جميعاً في تعقيد الصراع في اللحظة الراهنة، فإن أخطر المشاهد جميعاً هو الانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية من جانب وquot;حماسquot; من جانب آخر.

ونعرف جميعاً أن حماس فازت في انتخابات تشريعية، وشكلت الحكومة. وظننا جميعاً، حتى بيننا من لا يوافقون على خط quot;الإسلام السياسي الذى تتبناه quot;حماسquot;، أنها حين تنتقل من موقعها الإيديولوجي القديم الذي قام على أساس عدم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية وعدم التفاوض معها، وعدم إبرام معاهدات صلح، إلى موقعها السياسي الجديد، ستغير من مسلكها تغييراً جوهرياً، باعتبار أن السياسة هي فن الممكن، وأنها كما تمارس في كل الدنيا تنطوي على عمليات كر وفر، وتقدم وتراجع، والتخلي عن المواقف المبدئية المتطرفة، ومحاولة الوصول إلى حلول وسط.

غير أن كل هذه الآمال سقطت، لأن قادة quot;حماسquot; ازدادت درجة تطرفهم، وثبت يقيناً أن السلطة قد أعمتهم، فانشغلوا بها تماماً، ثم دخلوا في صراع مع quot;فتحquot;، تحول إلى صراع دموي في غزة، ونسيت quot;حماسquot; تماماً أنها في حاجة ضرورية لصياغة استراتيجية تحكم عملية مواجهتها للدولة الإسرائيلية. وحتى لو رفضت quot;حماسquot; التفاوض مع إسرائيل، فقد كان عليها أن تضع خططاً مدروسة للمقاومة طويلة النفس ومتعددة المراحل، بحيث تعبئ طاقات الشعب الفلسطيني كله، وتعده لمعركة تحرير وطنية طويلة المدى.

غير أن quot;حماسquot; فشلت فشلاً ذريعاً في هذا المجال، وتبين من تطورات الصراع، أنها أولاً لا تمتلك أي خطة متماسكة للمقاومة، وأنها تعتمد على ردود الأفعال غير المنظمة، كما أنها - فيما بدا من الوقائع- لا تهيمن على quot;المسرح العسكريquot; تماماً في غزة، لأن هناك فصائل فلسطينية شاردة كانت تتولى بشكل منهجي إفساد أي اتفاق للتهدئة بين quot;حماسquot; والدولة الإسرائيلية. وذلك بإطلاق صاروخ أو صاروخين بشكل عشوائي، مما كان يعطى إسرائيل الذريعة في كل مرة للضرب بقسوة بالغة في صميم العمق الفلسطيني، بغير تفرقة بين أهداف عسكرية وأهداف مدنية.

وإذا حاولنا أن نلملم مشاهد هذا الصراع المعقد بعد أن فككناها، لقلنا أننا بحاجة إلى عدة إجراءات. أولها تشكيل لجنة من فقهاء القانون الدولي العرب والأجانب المتعاطفين مع القضية الفلسطينية لإقامة دعاوى قضائية ضد قادة إسرائيل باعتبارهم مجرمي حرب بعد حرب الإبادة التي قاموا بها ضد الشعب الفلسطيني.

ولابد ثانياً من مناقشة نقدية استراتيجية صريحة مع الولايات المتحدة الأميركية بصدد دعمها المطلق للدولة الإسرائيلية، وفيما يخص اتفاقية التفاهم على وجه الخصوص.

وقبل ذلك كله لابد لقادة الشعب الفلسطيني أن يوحدوا صفوفهم بعيداً عن شهوات السلطة وإغراءات الثروة ويصبحوا مدافعين عن شعبهم الذي عانى ما لم يعانيه شعب آخر.

إن لم يتفق قادة quot;حماسquot; مع قادة quot;فتحquot; فمعنى ذلك أنهم أضاعوا القضية الفلسطينية عامدين متعمدين!