ناصيف حتي

عام 1989 سقط الستار الحديدي الذي كان يفصل غرب أوروبا عن شرقها. بعد عشرين عاما هنالك خطر قيام ستار حديدي جديد بين أوروبا الغنية وأوروبا الفقيرة، بين أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة إذا استعرنا الثنائية التي وصف بها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي عند الغزو للعراق، مواقف الأوروبيين من السياسة الأميركية حينذاك.

laquo;الشرقraquo; القديم يضم الدول التي تعيش أزمة مالية واقتصادية حادة والتي شملتها موجات التوسع الأوروبي وكان يفترض أن يشكل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي نوعا من الضمانة والأمان الاقتصادي والاجتماعي بعد السياسي إلى هذه الدول الجديدة في laquo;غربيتهاraquo;.

انكماش حاد، ارتفاع معدلات البطالة، تراجع قوي ومريع أحيانا في نسبة النمو، انهيار وسقوط العملات الوطنية، اقتصادات كانت ناجحة وواعدة ومعتمدة بشكل خاص على اقتصاد التصدير وعلى اجتذاب الرساميل الخارجية باتت منكشفة كليا أمام التراجع الحاد الذي أصاب الطلب الدولي.

هل هي نهاية المرحلة الليبرالية بالنسبة لأوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى تلك المرحلة التي بدأت منذ 1989 وشهدت رد فعل مزدوج بعد الانفلات من الاتحاد السوفييتي وولادة دول جديدة حينا ونظم جديدة أحيانا من اعتناق الليبرالية السياسية ومعها ليبرالية اقتصادية جنحت في حالات كثيرة نحو النيوليبرالية الاقتصادية والسيطرة الكاملة لآليات اقتصاد السوق.

هل نشهد لعبة رقاص الساعة والذهاب هذه المرة في رد الفعل إلى نشوء مناخات وبالتالي سياسات شعبوية سواء كانت يمينية او يسارية وعودة الفوبيات والانغلاق القومي والخوف من الآخر وتحميله مسؤولية الأزمة. laquo;الآخرraquo; هو الجار الأوروبي القريب أو البيت الأوروبي كله.

قمة بروكسل الأحد الماضي التي سبقتها بساعات قمة للدول laquo;الشرقيةraquo; سابقا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتوحيد الموقف في المطالب الموجهة للأسرة الأوروبية مع ما يحمله الاجتماع المصغر من رسالة حول تضامن الخائفين والمأزومين أو الأوروبيين الجدد، لم تأت بجواب جماعي شاف عبر برنامج إنقاذ إقليمي لشرق أوروبا ووسطها كان منتظرا وقدرت تكاليفه بجدول 190 مليار دولار بل كان الجواب من نوع توفير المساعدة على أساس كل حالة على حدة، كما أن الوعد بتسهيل شروط الانضمام إلى منظمة اليورو كوسيلة إنقاذ وضمان قد لا تكون وافية باعتبار أن الأزمة طالت دول هذه المنطقة أيضا ولو الطبع بشكل اخف مقارنة بالدول laquo;الجديدةraquo; في أوروبا.

أمام هذا الوضع تبرز بعض المفارقات التي تستدعي التوقف عندها: أولا أن تشيكيا أو الرئاسة الأوروبية الحالية المنوط بها دور أساسي كمبادر ومحرك للسياسات في حالات الأزمات هي الأقل أوروبية في توجهاتها واهتماماتها ولا تخفي ذلك أبدا، لا بل تعتز به.

ثانيا، أن الوضع الأوروبي الحالي بأمس الحاجة لإصلاح كبير للخروج من هذا المأزق أو ما يصفه يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا السابق، بالمستقبل القاتم.

ولكن هل الخروج يكون عن طريق مزيد من الاندماج الأوروبي وهو أمر مستبعد حاليا بعد فشل الاستفتاء على مشروع الدستور المبسط الجديد أو يكون عن طريق وجود قيادات قوية تشترك في رؤيا وبرنامج أوروبي وهذا ما يبدو غائبا أيضا، أو أن البناء الأوروبي أو إعادة انطلاق القطار بحاجة لانتظار نهاية الأزمة التي قد تطيح كليا بالبيت الأوروبي.

ثالث هذه المفارقات أن انطلاق مبادرة الاتحاد الأوروبي للشراكة الشرقية كمشروع مواز من بعض دول شمال ووسط أوروبا، للاتحاد من اجل المتوسط، موجه للدول الأوروبية غير الأعضاء بعد في الاتحاد الأوروبي عليه أن ينتظر أياما أفضل ليترجم إلى واقع. فالسياسة جمدت الاتحاد من اجل المتوسط والاقتصاد سيجمد الشراكة الشرقية.

رابعا، أن أوروبا سوق داخلية واسعة تشمل حوالي 500 مليون شخص ولا تكفي الطمأنة حول رفض السياسات الحمائية لمنع قيام حواجز اصطناعية غير مباشرة وبوسائل مختلفة لحماية الصناعات الوطنية، ولكن دائما تحت عنوان عدم المساس بالسوق الواحدة.

خامسا، مفارقة قوامها أن هنالك عددا من الدول التي تنتظر منذ سنوات أمام أبواب الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه وشراء بوليصة تأمين سياسية اقتصادية وخضعت وتخضع لفحوصات عديدة في طريقها إلى هدف الانضمام، هذه الدول ترى اليوم أوضاعا أوروبية غير مشجعة لا بل طاردة أحيانا لفكرة الانضمام ـ الضمان.

خلاصة القول ان الخوف على أوروبا بالأمس كان من الشرق وخوف أوروبا اليوم صار على الشرق. نجحت أوروبا في الامتحان الأول فصارت قوة كبرى دولية اقتصادية ومالية وإذا فشلت أمام الامتحان الثاني فستصبح بمثابة كتلة جوفاء منطوية على ذاتها غارقة في مشاكلها.