الثقافة العربية وجلد الذات

05-06-2009

رياض نعسان أغا


مرة أخرى ينعي أدونيس الثقافة العربية ويقول إنها في حالة انقراض، وهو بذلك يعود لإذكاء معارك نقدية في الثقافة العربية فقد رد عليه كثير من الكُتاب وبعضهم رأى أنه يفتعل الأزمات كي يبقى موضوع حوار. وأنا أجد الحوار مفيداً فثقافتنا بحاجة إلى ما يذكي جذوتها الملتهبة تحت الرماد، ولكنني لا أحب أن تأتي المواقف العدمية التي لا ترى سوى حكمها المسبق من كاتب عربي بحجم أدونيس، وأرفض المعايير التي يحكم فيها على ثقافة ما بالحياة أو الحيوية وعلى أخرى بالموت والانقراض. وأحسب أن من هذه المعايير حضور هذه الثقافة المعنية في الغرب بخاصة، بل يبدو كأن المطلوب هو رضا الغرب عن ثقافة ما كي تنال الاعتراف بأنها حية! وما أخشاه أن يستعيد بعض العرب quot;عقدة الخواجاquot; التي راجت في مطلع القرن العشرين، وأن يعود بعض العرب إلى الانبهار بثقافة الغرب، وأحسب أن ذاك الانبهار كان يمكن تبريره بالنظر إلى الفارق الحضاري الكبير بين العالم العربي الخارج لتوِّه من العهد العثماني المريض، وبين أوروبا التي بلغت ذروة في نهضتها العلمية وحكمت العالم بقواها العسكرية آنذاك. وأعتقد أن وضع العالم العربي على الصعيد الثقافي قد تغير كثيراً خلال السنوات الخمسين الأخيرة، ولم يعد مبرَّراً للمثقف العربي أن يعيش مرة أخرى حالة انبهار أمام ثقافة أوروبا العجوز التي تحولت إلى تابع صغير للثقافة الأميركية التي تحولت بدورها إلى تابع أصغر لثقافة الصهيونية. وها هو ذا العالم أمامنا، وفيه مثقفون أوروبيون وأميركان كبار يرون منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تنامي سيطرة الصهيونية المطلقة على حكوماتهم وعلى إعلامهم واقتصادهم، وترويجها لأكاذيب مريعة من طراز جريمة سبتمبر إلى خزعبلات مسوغات الحرب على أفغانستان والعراق، إلى الحرب الظالمة على لبنان ثم غزة، ولا تكاد إلا فئة ضعيفة قليلة العدد تجرؤ أن تنتصر للحق!


وللأسف وجدنا في فرنسا ذاتها عدة محاكمات تعرض لها غارودي لمجرد أنه أطلق أسئلة تتعلق بالحقيقة، وبعيداً عن السياسة نجد ثقافة الغرب تفقد تحت يافطة الحرية المطلقة كثيراً من قيمها السامية ويصير الموضوع الأكثر حضوراً فيها والأوسع ميداناً لنيل شرف عضوية الحداثة الغربية هو العمل على قضية الشواذ جنسياً كأن العالم أنهى قضايا الفقر والبطالة والحرية السياسية وسواها من القضايا الكبرى. ونحن نذكر كيف قامت قيامة مثقفين في أوروبا انتصاراً لمجموعة شواذ ألقي القبض عليهم في مصر، في وقت كان فيه أطفال غزة يموتون جوعاً من حصار ظالم دون أن نسمع موقفاً أوروبياً إلا ما ندر! ولا داعي للاستفاضة في تقديم أمثلة عن التردي القيمي الذي تعاني منه أوروبا ويشكو منه عقلاؤها، وهو ما يجعلني على خلاف رأي أدونيس أجد ثقافة الغرب هي المهددة بالانقراض، وليست الثقافة العربية التي يكفيها تعبيراً عن قوة حضورها أنها صمدت وحدها في وجه الأساطير الصهيونية الكبرى، وقاومت المشروع الصهيوني حين انحنى له كثير من الكبار.

وحسب ثقافتنا أنها رفضت الذوبان في ثقافة أخرى، كما حدث لأمم كبرى نسيت لغتها، وصارت الإنجليزية لغتها الرسمية، وتعمل ثقافتنا اليوم بقوة على استعادة مشروعها القومي على رغم وجود من يصدر شائعات عن موتها وعن انقراض ثقافتها، وقد أصرت على عروبة العراق حين حاول الآخرون سلخ جلده العربي، وأصرت على حق الفلسطينيين، حين احتشد العالم لنزع حقوقهم، وأصرت على المقاومة حين سماها العالم إرهاباً، ودافعت بقوة عن مشروع الإسلام الحضاري حين سماه الآخرون تطرفاً، وتمكنت من أن تفضح التطرف الدخيل على الإسلام حين كشفت مصادر تمويله، وقوى دفعه من أيام ظاهرة quot;الأفغان العربquot; إلى آخر عمليات التفجير التي تستأجر لها شبكات quot;الموسادquot; من يفجرون ويقتلون كي يقولوا فعلها مسلمون، وقادة أوروبا يعلمون أن الهدف هو محاربة حضور الجاليات المسلمة في الغرب. وللأسف سيعد أدونيس ذاته من هذه الجاليات حتى لو غير اسمه مرة ثانية، فالصهاينة يكرهون الحضور العربي والإسلامي في أوروبا وأميركا، ولاسيما بعد أن رأوا أن عامة الأوروبيين لا يتضايقون من هذا الحضور، بل كان الأوروبيون يقدمون المساعدات للجاليات المسلمة كي تبني مساجدها ومراكزها الاجتماعية وتعزز حضورها اللغوي والثقافي، وتتيح لها منابر إذاعية وصحفية، مما جعل الصهاينة يشعرون بالخطر من هذا التعاطف الأوروبي مع القضايا العربية. ومن المعروف أن الاختراق الصهيوني للثقافة الأوروبية قديم جداً، ولكنه لم يكن طاغياً قط كما بدا منذ بداية القرن الجديد وإعلان بوش حروبه الصليبية ضد الإسلام التي يحاول اليوم أوباما التهدئة من لهيبها عبر إعلانه أن الولايات المتحدة ليست في حرب مع الإسلام.


والمهم أن حرية التعبير في بعض بلدان أوروبا ضاقت إلى درجة أن مجرد انتقاد إسرائيل صار جريمة يعاقب عليها القانون وتضاهي معاداة السامية. ولا يعني انتقادي لتبعية الثقافة الأوروبية وفراغها الروحي التدريجي من القيم إنكاراً لإنجازاتها الضخمة ولاسيما في ميادين العلم التي سبقتها فيها دول أخرى لا يملك شعراؤها وفنانوها شهرة الأوروبيين، ولكن هذه الإنجازات لا تشعرني بوصفي عربياً ومسلماً بالدونية والصغار إلى درجة إعلان انقراض ثقافتي. وإذا قيل إن أدونيس يتحدث عن الثقافة بوصفها رواية وديوان شعر، فأدونيس يعلم أن الثقافة التي يتحدث عنها أوسع من ذلك، وحتى في هذه الأجناس الأدبية والفنية أجد تقدماً واسعاً بالقياس مع ما كان في بعض الأنشطة العامة. والوفود الأوروبية التي تكثر زياراتها الاطلاعية لبلادنا تشهد بما تجد من إنجازات.

وإذا كان أدونيس قد صب انتقاده على المؤسسات الثقافية فإن العلة ليست فيها وحدها، وإنما هي في حالة الفقر الإبداعي التي تعيشها الأمة بعد رحيل الكبار، ففي مصر مثلا لم نجد إلى اليوم من أخذ مكانة شوقي أو رامي أو ناجي، ولن نجد في وقت قريب من يأخذ مكانة محفوظ. وفي سوريا لن نجد بسهولة من يملأ الفراغ الذي تركه رحيل بدوي الجبل وعمر أبي ريشة ونزار وونوس والماغوط، ولن نجد كذلك من يعوض الجواهري والبياتي والشابي، وفي الموسيقى الأخوين رحباني وعبدالوهاب وأم كلثوم وسواهم كثير في المشرق والمغرب. وهؤلاء الكبار ما يزالون حاضرين في ثقافتنا، وسيبقون وسيأتي يوم تلد الأمة أمثالهم. وأعتقد أن النمو الأفقي للثقافة العربية سينعكس إيجاباً على النمو العمودي، وأنا متفائل بمستقبل الثقافة العربية ما دامت ترتكز على عمودين غير قابلين للانهيار هما العروبة والإسلام.

وعلى رغم أنني أختلف مع أدونيس فكرياً إلا أنني أحترم نشاطه الثقافي وأرجو أن يجند مكانته لدعم الثقافة العربية والإسلامية وليس للترويج لانقراضها، فنحن ندفع الملايين عبر برنامج العواصم الثقافية العربية لدعم حضورنا الثقافي في العالم، وليت أدونيس يوظف ثقافته وحضوره الأوروبي للدفاع عن أمته كما فعل إدوارد سعيد، وعندها سينال جائزة الأمة إذا فاتته نوبل، ولا أنكر استيائي الشخصي من توصيفه لدمشق في حديث تلفزيوني أجراه مؤخراً بأنها مدينة مغلقة، وقد استعمل تبريراً لذلك كونها مكتملة! نعم هي مكتملة وناضجة جداً ولكنها أفق مفتوح عبر التاريخ، وحسبها شرفاً أن أفضل أحيائها اسمه quot;حي المهاجرينquot; الذين فتحت لهم قلبها فصاروا أبناءها المخلصين، وكنت أظن أنه سيشيد بما فيها من أمن وطمأنينة على رغم وجود عشرين نوعاً أو يزيد من الشرائح التعددية التي أشاد بوجودها في عاصمة أخرى.