16/06/2009

لحظة الخليج في التاريخ العربي


عبدالخالق عبدالله


يتميز الخليج العربي باستقراره السياسي، واعتداله الفكري، وازدهاره الاجتماعي، ونموه الاقتصادي السريع، علاوة على انه الجزء العربي الأكثر انفتاحاً واندماجاً في النظام العالمي. هذه المعطيات وأخرى غيرها خلقت ما يمكن تسميته الحالة الخليجية وتشير إلى بروز لحظة جديدة في التاريخ العربي المعاصر هي لحظة الخليج العربي.

هذه ليست لحظة المغرب العربي، المشغول بهمومه الداخلية الكثيرة. وهذه ليست لحظة المشرق العربي المنهمك بشدة في أزماته العديدة، في فلسطين ولبنان والعراق. كما أن هذه ليست لحظة مصر ودول حوض النيل، التي انكفأت على نفسها وتراجع دورها القيادي مؤخراً.

في ظل تراجع المراكز العربية التقليدية الكبرى، يظل الخليج العربي هو الجزء المشرق والمستعد للقيام بمسؤولياته التاريخية، وأداء دوره التنويري والمساهمة في إحياء المشروع النهضوي العربي الذي طال انتظاره.

لم تبرز لحظة الخليج فجأة ومن دون مقدمات، بل تشكلت عبر أكثر من ثلاثة عقود من التحولات والتراكمات التأسيسية التي جعلت الخليج العربي بدوله ومجتمعاته واقتصاداته ومدنه واستثماراته، أكثر حضوراً في الشأن العربي وأكثر تأثيراً في تحولاته وتوجهاته وقناعاته الفكرية والسلوكية.

عاشت هذه المنطقة لحظة تاريخية باهرة ورائدة قبل أكثر من 1400 سنة، عندما انطلقت الرسالة المحمدية من قلب الخليج والجزيرة العربية. لقد انطلقت تلك اللحظة مدوية من هذه المنطقة، وانتشرت سريعاً في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي. ثم تراجعت هذه المنطقة وسلمت القيادة لمراكز ثقافية وحضارية متقدمة من حولها في الشمال والشرق والغرب، وفي دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وفقدت مكانتها التنويرية. الآن حان الوقت لاستعادة تلك المكانة حيث تؤكد المستجدات أن اللحظة العربية الراهنة ربما كانت لحظة خليجية.

والسؤال الآن هل هذه فعلاً وحقاً لحظة الخليج العربي في التاريخ العربي المعاصر؟ هل تعيش هذه المنطقة لحظتها في التاريخ وستتمكن من استعادة مكانتها التنويرية وتستعيد بريقها الثقافي، وتسهم في ولادة المشروع النهضوي العربي الذي تعثر كثيراً؟

لا يأتي طرح هذه الأسئلة من فراغ. فمجرد طرح السؤال ينبئ بوجود معطيات ضخمة ومستجدات كبرى تشير إلى بروز الخليج العربي كمركز الثقل التنويري والحضاري في المنطقة العربية، بعيداً عن المراكز الثقافية العربية التقليدية المتعثرة في المشرق والمغرب العربي.

إن أول مؤشر يدل على هذا التحول التأسيسي هو الطموح الخليجي للقيام بدور تنويري والذي يمكن مشاهدته في أكثر من عاصمة ومدينة خليجية. فالدوحة ترغب في أن تصبح العاصمة التعليمية الجديدة في المنطقة العربية، وقد استثمرت كثيراً وذهبت بعيداً في تحقيق هذا الهدف المعرفي من خلال سلسلة من المبادرات في قطاع التعليم العام والجامعي. كما استثمرت أبوظبي كثيراً في البنية التحتية الثقافية وترغب أن تصبح عاصمة الثقافة في الوطن العربي. وترغب دبي، ثاني أكبر إمارة في دولة الإمارات، أن تصبح عاصمة تقانة المعلومات في الوطن العربي، فهي المدينة العربية الأكثر استعداداً لدخول العصر الرقمي وبناء مجتمع المعلومات من أي مدينة عربية أخرى. وتركز المملكة العربية السعودية على البحث العلمي، وأسست جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا، كأول جامعة بحثية في الوطن العربي. وأكدت الكويت أنها تملك مشروعها الديمقراطي المتقدم على بقية التجارب الديمقراطية العربية بحيث أصبحت الدولة العربية الوحيدة المصنفة ضمن الدول الحرة في المنطقة العربية.

عند وضع المشروع الديمقراطي الكويتي والمشروع التعليمي القطري بجانب المشروع الثقافي والتقني الإماراتي، علاوة على المشروع البحثي السعودي تصبح الصورة أكثر وضوحاً من حيث ضخامة الطموح والاستعداد الخليجي للقيام بدور تنويري في هذه اللحظة من التاريخ العربي.

لا تقتصر المؤشرات على الطموح الذي لا يؤسس وحده لبروز اللحظة التاريخية، إلا إذا كان الطموح مدعوماً بقيادة ورؤية وإدارة حديثة. والرؤية والإدارة والقيادة موجودة في الخليج العربي وغائبة في المناطق الأخرى من الوطن العربي. القيادات في بقية أنحاء الوطن العربي مترهلة وغوغائية ومنهمكة في صراعات سياسية وغير قادرة على تأسيس أي مشروع تنموي ونهضوي حضاري.

ومما يعزز الحديث عن لحظة الخليج، أن دول هذه المنطقة مستعدة اكثر من غيرها لاقتصاد المعرفة والاستفادة من ثورة تقانة المعلومات. جميع البيانات تشير إلى تقدم دول الخليج في مرتكزات المعرفة كالتعليم وتقانة المعلومات والإبداع. وعلى الرغم من أن الأداء المعرفي العربي متواضع جداً مقارنة بالأداء المعرفي العالمي، لكن دول الخليج هي الاستثناء لهذه القاعدة. فالأداء المعرفي الخليجي مشرق ويوازي في بعض من مرتكزاته الأداء المعرفي العالمي. إن كانت هناك واحة معرفية خضراء ومضيئة في الوطن العربي فدول الخليج العربي هي هذه الواحة، والإمارات هي الأكثر تفوقاً ثم تأتي البحرين والكويت وقطر، وذلك وفق بيانات البنك الدولي.

يتزامن هذا الاستعداد الخليجي لاقتصاد المعرفة، مع حقيقة بارزة أخرى هي أن المشهد الثقافي في الخليج العربي مزدحم بالنشاطات والفعاليات والمبادرات، علاوة على إنتاج فني وروائي وأدبي وأكاديمي مهم يصب في سياق حراك ثقافي خليجي يتجه صعوداً وينافس الحراك الثقافي في بقية المناطق العربية. وما يعزز الحراك الثقافي الخليجي وجود حراك إعلامي خليجي استثنائي برز في السنوات الاخيرة جعل من الخليج مركز الثقل الإعلامي العربي الجديد ومن دون منافس.

والشاهد أن هناك حالة خليجية تتسم بالاستقرار والاعتدال والازدهار والتركيز على النمو الاقتصادي، ما يثير السؤال عن إمكانية تحول الخليج إلى مركز الثقل الفكري والثقافي العربي المستقبلي كما هو حالياً مركز الثقل المالي والاقتصادي. فهل الخليج مستعد لهذا الدور الحضاري أم أن مصير الخليج العربي أن يبقى عملاقاً اقتصادياً ومالياً وقزماً ثقافياً وفكرياً؟

لا يود الخليج العربي أن يخترع لنفسه مكانة، ويستلم القيادة، ويتوهم الريادة، فاللحظة الخليجية هي لحظة عربية خاصة في ظل غياب المشروع الإصلاحي الديمقراطي وتراجع الخطاب النقدي وتدني سقف الحريات، خاصة حرية الفكر والتعبير.

لكن قدر الخليج العربي أن يتحمل مسؤوليته التاريخية لإنجاز المشروع الحضاري والنهضوي العربي. لقد انطلقت النبوة المحمدية من أرض الخليج والجزيرة العربية، والفرصة متاحة لهذه المنطقة أن تقوم بدور تنويري تاريخي يعيد للأمة العربية تألقها ويؤكد مكانتها الرائدة في التاريخ العالمي.