23-06-2009

إيران.. شرائح إلكترونية في عمامة الفقيه

يحيى الأمير

أكثر ما يلفت النظر في صور المظاهرات التي تعيشها شوارع طهران هذه الأيام هو نوعية المتظاهرين والصفات التي يظهرون بها في الشوارع، إنها بكل اختصار عبارة عن إعلان واضح أن إيران المستقبل والعولمة كانت تحت وطأة سجادة إيرانية غليظة، لكنها استطاعت أن تنبش وتخترق ذلك النسيج المحكم لأن أنفاسها كانت ساخنة بما يكفي لإذابة كل تلك السماكة.
بالفعل فالنسيج الإيراني القائم على رؤية دينية أيديولوجية وتنوع وتعدد في مرجعيات العمل الفقهي وبالتالي الإداري والسياسي محكم للغاية، وكأن كل ما كان يحدث منذ الثورة هو نوع من إحكام المنافذ وإغلاقها على كل ما يخالف مبادئ الثورة الخمينية وما تقوم عليه من تصورات عقائدية وخاصة ومعادية للعالم وتحويل إيران إلى إمبراطورية تديرها العمامة وأفكار ولاية الفقيه وتنوعات المراجع السياسية المرتبطة بالمراجع الدينية القائمة، ساعية لأن تحافظ على كل تلك الصفات وأن تجعل من إيران التي تريد أن تواجه العالم دولة عقائدية في عالم مدني.
هذا جانب واضح وكبير جدا من الإشكال الذي تعيشه إيران، فهي تمثل الورطة الحقيقية للعقائدي الأخير في هذا العالم الذي يمثل شعبه طاقة واسعة من العمل والرغبة في الانطلاق والبحث عن التعايش بينما تمثل قياداته ومراجعه حالة من العداء والمواجهة ضد العالم. لا إن الشباب في إيران على العكس من ذلك تماما، إذ يبدو أن باراك أوباما أكثر تأثيرا فيهم من أحمدي نجاد. لأنه على الأقل بالنسبة لهم حالة من الحياة خارج تلك القناعات والأفكار والأيديولوجيات التي يتربى الشباب في إيران وهم يرون فيها مصيرا محكما ومفروضا لقناعاتهم وتوجهاتهم، فيما يمثل أحمدي نجاد بالنسبة لهم لحظة الخصام المستمر مع العالم، والغربة المفرطة التي يعيشونها وهم يلاحظون كيف أصبحت صورتهم عند العالم.
إن البدلة العادية وذات الألوان المكررة والأكمام الطويلة أحيانا التي يرتديها دائما أحمدي نجاد لا تزيد الشباب الإيراني إلا نفورا وإمعانا في التهكم وإيمانا بأن ما يقوله حتى وإن كان يؤمن به فليس هو ما يحتاجون إليه ولا ما يطمحون له أن يمثل صورتهم الحقيقية أمام العالم، خاصة أنهم يتعرفون عن تلك الصورة من خلال الفضاء الجديد المفتوح الذي لا تتحكم فيه قناة سحر، ولا تلفزيون العالم بل تتحكم فيه وتؤثر في أجوائه جوجل والفيس بوك والنت لوج واليوتيوب، ويشاهد فيها كيف يعيش العالم وكيف هم مؤثرون في مسارات صناعة الرؤية الوطنية في أو أوطانهم.
طوال السنوات الماضية مثلت السياسة الإيرانية في عدة جوانب صداعا لنفسها وللمنطقة وللعالم بخلاف الصورة التي تكون عليها حين يكون الصوت الإصلاحي هو الأعلى في إيران مثلما كان الحال أيام الرئيس محمد خاتمي، لكن وصول أحمدي نجاد إلى السلطة والذي جاء بدعم ومباركة الملالي أوجد حالة من الهوة والمفارقة الواسعة بين ما يريده الإيرانيون لوطنهم وبين ما يريده الملالي لعقائدهم وأيديولوجياتهم، مما أوجد مسافة طويلة من الغربة بين الأداء السياسي الذي تؤديه إيران في المنطقة والعالم، وبين ما تتطلع له الأجيال الجديدة في إيران، ولقد كانت السنوات الماضية خانقة جدا لهذا الجيل، لقد بدأ يتطلع إلى العالم وهو يرى أنه يعيش في ظل رؤية سياسية غنية بالشعارات وأفكار العداء والمواجهة مع العالم وفقيرة جدا في خطط التنمية والاتجاه للمستقبل والتفاعل مع العالم، ولطالما كان دخول الرئيس نجاد وطوال السنوات الماضية إلى جامعة طهران أمراً يجعله يشعر بالحرج كثيرا نظرا لما يلاقيه من استهجان وصيحات الطلاب والطالبات بالموت للديكتاتور (لاحظوا أنها توظيف للعبارة الأيديولوجية في الإعلام الإيراني العقائدي :الموت لأمريكا) وكان يبدو وطوال هذه السنوات أن ثمة جيلا يتشكل في إيران يرى أن العولمة تمثل تطلعه أكثر مما تمثله الحياة السياسية الإيرانية.
كانت الانتخابات الأخيرة فرصة واسعة لتعديل المسار، وهو ما مثل أبرز لحظات المواجهة بين إيران القديمة وإيران العولمة الجديدة، إذ يبدو وبعد قرابة اثني عشر يوما من المظاهرات والاحتجاجات أن الشارع الإيراني الجديد يتظاهر انطلاقا من ثقته في نفسه وفي رؤيته ومن إيمانه أنه لا يمكن أن يعيد انتخاب نجاد، لكن النتيجة أعلنت على خلاف ذلك.
الشباب الذين يتظاهرون الآن في شوارع طهران هم من جيل لا تمثل لهم الثورة سوى معلومة ومادة تاريخية ولكنها لا تمثل حياتهم ولا تطلعهم، والإجراءات التي اتخذتها السلطات في إيران تشير بشكل واضح جدا إلى أن الأزمة تتجاوز البعد السياسي والاحتجاج على الانتخابات لتمثل صراعا بين إيران الجديدة والقديمة، بدليل إقفال كثير من مواقع الإنترنت ومحاولة التشويش على كثير من وسائل الإعلام وإغلاق مكاتب إعلامية أخرى، ذلك أن مثل هذه الإجراءات تكشف حقيقة سعي العقائديين إلى السيطرة والتزوير لأنها نوع من محاولة محاصرة المعلومة والرأي وهي بعض أخلاقيات العقائدي في كل مكان.
يبدو أن إيران المستقبل قادمة جدا، والشباب والفتيات البسطاء الذين يتظاهرون في الشوارع ولا ينتمون لأي تيار أو حزب سياسي هم إنما ينتمون لأنفسهم ولطموحهم وللعالم، وإذا ما وقفت الهراوات في وجوههم وشتتهم الغاز المسيل للدموع، فإن الفيس بوك واليوتيوب هما شوارع عالمية ومؤثرة جدا، سوف تسهم في خنق إيران القديمة وإيران قاموس نجاد العدائي والحاد والشعاراتي باتجاه قاموس الشباب الإيراني الذي يدرك جيدا أنه سئم كثيرا صورته المتردية في العالم، وأن عليه أن يكافح ويبتكر طريقه للحياة وللعالم حتى لو اضطر أن يزرع شرائح إلكترونية في عمامة آية الله الفقيه.