بلير والعراق أو اقتحام الأبواب المفتوحة


مالك التريكي


عندما يجهد المرء نفسه في البرهنة على حقيقة معروفة لا حاجة لإثباتها، فإن الإنكليز يقولون، استخفافا، إنه يعلن البديهي أو ينطق بالبديهيات. أما الفرنسيون فإنهم يقولون عنه إنه يقتحم أبوابا مُشْرَعة أصلا! ولعل من أشهر الأمثلة المدرسية على اقتحام الأبواب المشرعة تلك الأبحاث الرديئة التي أصبح يحبرها بعض الطلاب في بعض جامعات 'آخر زمن' في مواضيع لا معنى لبذل الجهد فيها أبدا لأن نتيجتها معروفة بالمنطق العام، أو البداهة، دونما حاجة لعناء بحث. أما أشهر أنواع الاقتحام السياسي للأبواب المشرعة في الديمقراطيات الغربية، فهو مسارعة الساسة كلما اندلعت أزمة إلى المطالبة بفتح تحقيق، رغم أن سبب الأزمة أو المسؤول عنها يكون في معظم الحالات معروفا. حتى أنه صار لكلمة 'تحقيق' وعبارة 'لا بد من فتح تحقيق' هالة، بل سحر موهم بأن هذا الطقس السياسي المكرور هو 'أم المطالب' وأبو الحلول.
وهكذا فإن الديمقراطية البريطانية العريقة قد 'أنجزت' من منتصف 2003 إلى منتصف 2004 ما لا يقل عن أربعة تحقيقات في الملابسات التي أحاطت باتخاذ الحكومة قرار المشاركة في غزو العراق. أربعة تحقيقات، ومع ذلك فإن الطبقة السياسية وقطاعات من الجمهور ظلت تطالب بالمزيد. صحيح أن أيا من هذه التحقيقات لم يكن شاملا أو مستقلا. وصحيح أن قرار غوردون براون قبل أسبوعين تشكيل لجنة تحقيق جديدة هو استجابة لمطلب شعبي وسياسي بفتح تحقيق شامل ومستقل وعلني. إلا أنه إذا كان من شبه الأكيد أن التحقيق الذي نحن مقبلون عليه هذه المرة سوف يكون شاملا ومستقلا، فإن الثابت أنه لن يكون علنيا إلا بمقدار. ذلك أن براون قد اتخذ القرار بأسلوبه المعهود، أي طول التردد بين الإقدام والإحجام ثم العجز، ساعة القرار، عن الحسم. ولذلك فقد أعلن أول الأمر أنه ليس من اختصاص لجنة التحقيق تحميل أي طرف المسؤولية عما حدث لأن الغاية من هذا التحقيق هي 'استخلاص العبر من أجل المستقبل'! لكن وزير الخارجية ديفيد ميليباند اضطر، إزاء شدة الاستنكار العام، إلى مناقضة رئيس الحكومة والتصريح بأن صلاحيات لجنة التحقيق تشمل تحميل المسؤولية لأي طرف كان. على أنه أبدع في تذويب المسألة في كثير من محلول اللغو المعسول عندما قال 'إن لجنة التحقيق لم تشكل بغاية تحديد المسؤوليات المدنية أو الجنائية، فهي ليست لجنة تحقيق قضائي. أما كل ما عدا ذلك فإنه يقع ضمن اختصاصها، حيث أن لها أن تُثني (!!!) على من تريد وتوبخ من تريد'. كما أعلن براون أول الأمر أن جلسات التحقيق سوف تعقد خلف أبواب موصدة رغم أنه كان قد التزم قبل عام بأن تكون الجلسات علنية! لكن عندما تبين له أن كلا من النخبة السياسية والنخبة العسكرية تؤيدان مطلب أن يكون التحقيق علنيا، وجه رسالة إلى رئيس لجنة التحقيق الجديدة سير جون تشيلكوت يطلب منه النظر في إمكان عقد 'بعض' الجلسات علنا. فرد عليه سير جون أن من 'الأساسي' أن يكون أكبر عدد ممكن من الجلسات علنيا.
ولا شك أن المسؤول الأول عن هذه البلبلة هو براون ذاته. فقد تأكد الآن أن سبب تنكره لتعهده قبل عام بأن تكون جلسات التحقيق علنية هو أن 'السوبر وزير' بيتر ماندلسون الحليف المخلص الدائم لتوني بلير، وداهية الدهاة المشهور بكُنية 'أمير الظلام'، كان قد اشترط عليه أنه لن يساعده في صد المساعي البرلمانية الرامية لحمله على التنحي من رئاسة الحكومة إلا إذا تعهد بأن تكون جلسات التحقيق في قضية غزو العراق سرية. أما الغاية من الحرص على سرية الجلسات فهو ضمان حماية العزيز بلير وتجنيبه مخاطر التعرض لمساءلة علنية ربما تتحول، إذا تميزت بالحزم اللازم، إلى محاكمة تاريخية يفتضح فيها أمره أمام أعين العالم.
ولهذا فلا عجب أن يكون بلير قد استمات قبل انصرافه في رفض إجراء تحقيق جديد، زاعما 'أننا قد أجرينا التحقيق تلو التحقيق، ولا حاجة بنا إلى تقليب هذه المسألة مرارا وتكرارا'. لكن العجب حقا هو أنه لا يزال هناك من الساسة البريطانيين من يتجاهل، إلى حد إعطاء الانطباع الغريب بأنه يجهل فعلا، الحقيقة التي يعرفها العموم: وهي أن السبب الأساسي لقرار بلير خوض الحرب على العراق هو أن سيده جورج بوش قرر شنها. أما ما حصل بعد ذلك فليس سوى تفاصيل إجرائية تتعلق بالتخريج الدبلوماسي القانوني وبالإخراج السياسي التلفزيوني. تلك هي الحقيقة، بكل بساطة خالية من التشويق وبكل فجاجة مُغْنِية عن إجراء أي تحقيق.