محمد حسين اليوسفي



عادت التفجيرات ذات المنحى الطائفي البحت إلى الواجهة، فيما تستعد الحكومة العراقية لإزالة الحواجز الأسمنتية المسلحة التي تفصل بعض أحياء العاصمة بغداد والتي وضعت في أعقاب الحرب الطائفية التي استعرت بعد تفجير مرقد الإمامين في سمراء في فبراير من العام 2006.

وتتزامن هذه التفجيرات مع إدعاءات الحكومة العراقية المتكررة بأنها قادرة على حفظ الأمن في المدن العراقية بعد رحيل القوات الأميركية المحتلة عنها، وكأن تلك التفجيرات تريد أن تبعث برسالة واضحة لا لبس فيها بأن الأمن والأمان لن يتحققا في ربوع العراق المضطرب في ظل التركيبة السياسية الحالية التي أتت بعد الاحتلال، سواء بقي الأميركان أم خرجوا!!

ولعل أبسط وسيلة عند هؤلاء هو استهداف المدنيين بتفجيرات عشوائية، الهدف منها خلق اضطراب في الشارع مما سيقود إلى ضعضعة السلطة خاصة أن هذه التفجيرات تأخذ شكلاً طائفياً بحتاً غير موجهة إلى قوات الأمن أو إلى جنود الاحتلال الراحلين.

ولا شك أن استمرار هذه التفجيرات على منحاها الطائفي الواضح ستثير ردات فعل طائفية كتلك التي حدثت في العاملين 2006 و2007، وسيكون الفرق هذه المرة أن الجنود الأميركيين سيجلسون بعيدين وهم يراقبون هذا الاقتتال دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التدخل.

إن المعضلة الأساسية التي يواجهها المجتمع العراقي ( سواء بقى الأميركان أم رحلوا ) هو مدى القبول بالتغيير الذي حدث في السلطة والذي بدل التركيبة السياسية القديمة التي استقر عليها النظام العراقي منذ نشأة الدولة الحديثة في العام 1921، والتي لم تراع عنصراً مهماً من عناصر تركيب أي دولة حديثة وهو وضع laquo;الأغلبيةraquo; في مقابل laquo;الأقليةraquo; أو laquo;الأقلياتraquo;، ثم ترتيب وضع القوميات المشكلة إن وجدت، وفي الحالة العراقية وضع أكراد العراق في مقابل عربه.

ومن الواضح أن طرفاً رئيسياً من الأطراف الثلاثة المكونة للشعب العراقي يرى بأن ذلك التغيير الذي حدث بعد دخول القوات الأميركية وإسقاطها نظام صدام حسين بالقوة، هو تغيير لم يأت لصالحها، بل في حقيقية الأمر أتى على مصلحتها وأدى إلى تهميشها.

بيد أن مشكلة هذا الطرف ومعضلته الأساسية أنه لا يمثل الأغلبية في نظام باتت حكومته تتشكل بواسطة الانتخابات العامة، التي يكون فيها العدد العنصر الرئيسي في طبيعة المكونات الداخلة في تركيبته من الناحية الطائفية والقومية.

وما يتبع ذلك من تركيب الأجهزة الأمنية والجيش والتي تأتي انعكاساً لطبيعة القابضين على السلطة. وهذا الطرف في نفس الوقت لا يدعو إلى تجزئة العراق وخلق ثلاث دويلات فيه لأنه سيكون أول الخاسرين في تلك التجزئة، لفقدانه لمورد العراق الرئيسي المتمثل بالنفط الموجود في شمال البلاد وجنوبها!! إن القوى التي تلعب على مشاعر هذا الطرف تريد إما إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أو تعظيم مكاسبها مستفيدة من الدعم الشعبي في مناطقها والوضع الإقليمي وامتداداته في الداخل العراقي.

لا الفيدرالية ستكون دواءً ناجعاً في هذه الحالة ولا الديمقراطية (وهذه ليست بالطبع دعوة إلى المركزية المطلقة ولا إلى الاستبداد، بل هو تشخيص للحالة)، فالفيدرالية تنجح حينما تقتنع laquo;أممraquo; أو laquo;شعوبraquo; تتمتع بالحرية الكاملة والاستقلال بأن من الخير لها أن تتحد في إطار سياسي لأن ذلك يحقق مصالحها بشكل أفضل. كالتجربة السويسرية التي يشكل اتحادها من ثلاث قوميات بثلاث لغات رسمية (الفرنسية والألمانية والإيطالية) أو الاتحادي الأميركي الذي تشكل من مجموعة ولايات حرة اتحدت بملء بطيب خاطرها.

أما الديمقراطية (نشير هنا إلى جانبها الانتخابي) في مجتمع يشكو من انقسامات دينية ومذهبية وقومية عميقة، فإنها لن تؤدي إلى تجاوز البنية القائمة (في ظل تسيد القوى الدينية والقومية على الشارع) إنها لن تؤدي إلى إجماع وطني حول رموز يتم الاتفاق عليها شعبياً لتمثل صوت جميع الشعب بمختلف فئاته، بل ستكرس تلك الانقسامات وربما ستزيدها سوءًا !!

ولا شك أن الجوار الإقليمي والجغرافي له تأثير مهم (وهو عامل يجب عدم إغفاله في تجربة التشكل السياسي لأي دولة من الدول)، ويعلمنا التاريخ أن العامل الخارجي كان له حضور دائم في كل حالات القلاقل والاضطراب التي حلت بالأمم، ألم تدعم فرنسا الثورة الأميركية نكاية بغريمتها بريطانيا العظمي، laquo;الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمسraquo;؟!! فتدخلات الجوار الجغرافي في الشأن العراقي بادية للعيان ولا حاجة للإفاضة فيها.

غير أن معضلة العراق ببساطة أنه يعيش حالة إعادة تشكل سياسي في ظل انقسام مذهبي وقومي عميق تغذيه (ولا تسببه) دول الجوار ذات المصالح المتضاربة!! وما لم يتوصل العراقيون إلى laquo;إجماع وطنيraquo; على شكل النظام السياسي، وما لم تتوصل مكوناته القومية والمذهبية إلى قناعات مشتركة انطلاقاً من حجمها وقوتها على أرض الواقع، فإن العنف سوف يستمر ولن يتوقف.