الظاهرة في انتشار مستمر

الجزائر - إيوانوغان ورشيدة دبوب


لم يعد تلقين الأطفال اللغة الفرنسية حكرا على الوزراء والأثرياء والمسؤولين السامين في أجهزة الدولة كما كان معروفا أيام الحزب الواحد، بل امتدت الظاهرة إلى شرائح اجتماعية متوسطة. وإن كانت المدرسة الخاصة هي المحرك الأساسي لهذه الظاهرة، فللأولياء مسؤولية أيضا كون الكثير من المثقفين الجدد في بلادنا يفضلون التواصل مع أبنائهم بالفرنسية بدل العربية أو الأمازيغية أو اللهجات الجزائرية المحلية.
اشتهر المسؤولون الجزائريون في الثمانينيات بصفة خاصة بتعليم أبنائهم في المدارس الفرنسية وقضاء عطلهم رفقة أسرهم في فرنسا وأوروبا. وكل هذا في سبيل تهيئة أبنائهم للحياة الغربية، وأغلبهم الآن استقر هناك وراء البحر ولا يأتي للجزائر إلا للعمل في شركة أجنبية أو للأعمال الخاصة.
كان هذا النمط المعيشي الذي يتردد في الشارع الجزائري عن الوزراء والجنرالات والمسؤولين السامين في مختلف أجهزة الدولة. وأول من كشف علانية عن وجود مثل هذا النمط المعيشي عند رموز النظام الحاكم عندنا، هو رئيس الجمهورية نفسه عندما خاطب أحد أحفاده مباشرة على شاشة التلفزيون الوطني الأحادي باللغة الفرنسية في إحدى المناسبات الانتخابية. وفي المقابل لا يتأخر التلفزيون الجزائري عن تخفيض صوت أي شخص جزائري أو أجنبي يتحدث بالفرنسية على شاشته، حتى يسمح للمشاهد بسماع صوت المترجم باللغة العربية.
هذه الازدواجية في النمط المعيشي الذي أراد النظام الحاكم عندنا فرضه على الشعب من جهة وعلى نفسه من جهة أخرى، لم يمر دون ردود فعل من المجتمع وبشكل خاص من الشرائح الاجتماعية المتوسطة. فبمجرد إعلان التعددية الحزبية والإعلامية في بلادنا، خرج تيار سياسي واجتماعي ينادي بإصلاح المنظومة التربوية ورفع شعار ''لا لتعريب المدرسة الجزائرية وتوجيه أبناء المسؤولين نحو المدارس الفرنسية''.
وإن وجد هذا التيار مقاومة شديدة ليس من الحكومة فقط، بل أيضا من المجتمع الذي اشتم فيه رائحة ''حزب فرنسا''، فهذا لم يمنع من بروز مدارس خاصة في الجزائر تلقن أبناء الجزائريين البرنامج الفرنسي. فلم تعد ظاهرة التواصل باللغة الفرنسية بين الأبناء وأوليائهم والأطفال فيما بينهم، يقتصر على عائلات محسوبة على طبقة معينة في المجتمع، وهي في الغالب طبقة الوزراء والجنرالات والمسؤولين المحيطين بهم.
''البرجوازية الصغيرة'' تبحث عن هويتها
المتجول في بعض أحياء مدننا، يلاحظ أن ظاهرة التواصل بالفرنسية مع الأطفال امتدت إلى شرائح اجتماعية أخرى أقل مستوى إذا اعتبرنا أن أعلى شريحة في مجتمعنا هي شريحة السلطة ومن يقربها.
ونلاحظ هذه الظاهرة خاصة في أحياء الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط ومؤسسة ترقية السكن العائلي التي يسكنها في غالب الأحيان موظفون وإطارات ذوو مستوى جامعي ويصنفون في قاموس السياسة ضمن ''البورجوازية الصغيرة''.
وميزة هذه البورجوازية أنها تجمع بين السلوكات والتقاليد التي تعلمها هؤلاء الجامعيون في أحيائهم الشعبية أو في مداشرهم، وبين العصرنة التي فرضتها عليهم طبيعة عملهم وظروف معيشتهم العائلية. ولهذه الأسباب نسمع الأمهات ينادين أبناءهن من الشرفات، تماما كما يحدث في الأحياء الشعبية القديمة، لكن باستعمال اللغة الفرنسية، لأن أبناء هذه العائلات تقريبا يمرحون ويقضون أوقات فراغهم خارج البيت مثل كل أطفال الجزائر، غير أنهم يتواصلون باللغة الفرنسية أكثر من أي لغة أخرى.
وحال هذه ''البورجوازية الصغيرة'' الجديدة، ليس حال إحدى العائلات بحي المرادية التي يشتغل فيها الزوج والزوجة في إحدى أهم الشركات الوطنية، أطفالهم نشأوا منذ الصغر في جو تغلب عليه اللغة الفرنسية بالإضافة إلى أن العائلة فضّلت أن يدرس أبناؤها في مدارس خاصة يدرس فيها أطفال من نفس المستوى. ما يذكره جيران هذه العائلة أن أبناءها منعزلون تماما عن سكان الحي، برنامجهم اليومي لا يتغير، يلتحقون فيه صباحا بمدارسهم وفي المساء إلى مراكز رياضية خاصة ويعودون ليلا إلى المنزل ولا يتحدثون مع أطفال الحي، وقد ذكرت لنا إحدى الجارات تسكن في نفس العمارة أنه حدث أن دخل إبن هذه العائلة لبيتها ولعب مع ابنها وعندما علمت والدته بالأمر أطلقت عليه وابلا من الشتائم. وكانت كل العبارات بالفرنسية.
ومن بين أهم ما ذكرته المعنية عبارات تسيء للمعربين وخطرهم على حياة ابنها. وتضيف السيدة أنها دخلت بعدها معها في جدل طويل بسبب هذه العبارات. ومنذ ذلك اليوم وضعت حارتها حراسة مشددة على طفلها خوفا من عودته إلى بيتها. ومع مرور الوقت أصبح ذلك الصغير شابا ينظر باستعلاء وتكبر وحقد على أبنائها وعلى أسرتها ككل. وأضافت ذات المتحدثة أنه، ورغم الانقطاع بين العائلتين إلا أنها كانت تلاحظ أن الفرنسية هي لغتهم اليومية.
ويلاحظ هذا خاصة عندما تستقبل العائلة أقاربها وأصدقاءها الذين ينتمون لنفس الطبقة، حيث لا تسمع سوى العبارات الفرنسية. أما اللغة العربية فلم تعد تسمع إلا نادرا في بعض العبارات كـ''إن شاء الله''. وغير بعيد عن هذه العائلة، وفي حي المدنية تعيش عائلة أخرى أبناؤها جميعا يدرسون في الخارج، وما ذكره لنا أحد معارفهم أن تنشئتهم كانت فرنسية مائة بالمائة ولم يكن للأبناء أصدقاء من الحي أو حتى المدرسة؛ حيث كان يحكمهم نظام خاص، بالإضافة إلى أنهم يقضون عطلتهم السنوية في دول أجنبية.
بين المدرسة الخاصة والمدرسة الجزائرية
من نتائج الإصلاحات المختلفة للمنظومة التربوية، أن الخواص الذين أسسوا أول مدارس تعليمية أخلطوا بين ''المدرسة الخاصة'' الذي يعني المدرسة غير عمومية والتعليم فيها يتم بدفع المقابل وليس مجانا، كما هو معمول به في المدرسة العمومية، والمدرسة الفرنسية التي تعني برنامجا دراسيا آخر يختلف في الجوهر عن البرنامج الدراسي الجزائري، فكثيرون هم أطفال الجزائر اليوم الذين لا يعرفون اسم بلدهم، وكثيرون هم أطفال الجزائر الذين يتشاجرون مع أوليائهم بسبب شجرة الـ''نويل''، وهم لا يعلمون أن تلك الشجرة غير متوفرة أصلا في بلادهم..
وعندما تفطن وزير التربية أبوبكر بن بوزيد لوجود اختلاف في برامج المدارس الخاصة واكتشف أن الجزائر أصبح فيها منظومات تربوية وليس منظومة واحدة، سارع إلى فرض دفتر شروط جديد على المدارس الخاصة يجبرها على تدريس البرنامج التربوي الذي يتم تدريسه في المدرسة العمومية.
وإن استجابت العديد من المدارس لدفتر الشروط الجديد، فالمواطنون يؤكدون وجود مدارس مازالت تدرس برنامج التعليم عن بعد الفرنسي. وحين سألنا أحد الأولياء عن مصير أبنائه مادامت وزارة التربية ترفض الاعتراف بالمدرسة التي يدرس فيها أبناؤه، لم يجد الإجابة، واكتفى بالتعبير عن حيرته من الأمر. فتغيير المدرسة بالنسبة له أمر صعب لأن أبناءه تعودوا على تلك المدرسة، لكنه لايستطيع الانتظار طويلا حتى يتم اعتماد تلك المدرسة. ومايزيد من حيرة أولياء التلاميذ الذين يدرسون في مدارس غير معتمدة، أن هذه الأخيرة تقترح عليهم شهادات دراسية فرنسية، تمكن أبناءهم في حالة النجاح من الالتحاق بالثانوية الفرنسية هنا في العاصمة أو في فرنسا، وتمكنهم من اجتياز امتحان البكالوريا الفرنسي... هي فعلا مغامرة تسيل اللّعاب بالنسبة للكثيرين، لكنها في نفس الوقت محفوفة المخاطر؛ لأن الرسوب والفشل في امتحانات الالتحاق بالطور الثانوي يعني ضياع مستقبل هؤلاء الأطفال.
الأستاذ ناصر جابي: هذه العائلات تحضّر أبناءها منذ الصغر للهجرة
لمعرفة رأي علماء الاجتماع في الظاهرة كان لنا اتصال مع المختص في علم الاجتماع الأستاذ ناصر جابي الذي أكد لنا أن هذه الظاهرة تؤرخ لها بالخصوص العائلات المتحضرة التي تسهر على تحضير أبنائها منذ الصغر للهجرة بإطلاق عليهم تسميات قريبة للفرنسية منها للعربية، ولاتمت بصلة لتراثنا منها سامي، رامي وغيرها من الأسماء الخفيفة القريبة للأسماء الأجنبية.
ووصف محدثنا الظاهرة بأنها شكل من أشكال ''الحرفة''؛ لأن المسؤولين عليها يحببون أبناءهم في كل ماهو أجنبي بتعليمهم اللغة الفرنسية وإكسابهم عادات وتقاليد يتبعها المجتمع الفرنسي، فهم منذ البداية لايحضرون أبناءهم للاندماج في المجتمع الجزائري ولايحبّبونهم في المحيطين بهم ولا في تراث الوطن وتقاليده، فيعيشون في مجتمع لايعرفون عاداته ولايتلذذون بمناسباته، فيكبرون وهم يفتقدون في كل يوم مايشدهم لوطنهم وشعبهم والحياة البسيطة التي تطبع الأزقة والأحياء. ومن ثم فقدانهم لهويتهم ككل، وحتى إن هاجر الأبناء وحدث أن وعادوا مرة أخرى للوطن سيشتغلون في شركات أجنبية لأن هدفهم العمل وليس تقديم خدمة للوطن.
الفيدرالية الوطنية لعمال التربية من جهتها ترى أن المسؤولية لا تتحملها المدارس الخاصة فحسب. وهذا ما ورد على لسان رئيسها السيد''بوداحة''من خلال اتصال جمعه بالخبر؛ حيث أكد أن هذه الظاهرة تتحملها العائلات التي وضعت أبناءها في هذا الإطار وتجاهلت العواقب التي قد يخلفها هذا الانعزال، بالإضافة إلى أنها تحرمها من الإطلاع على تاريخ وطنها الأصلي.