رضوان السيد

جاءت وفاة الشيخ حسين منتظري لتجدد أحداث ووقائع الانقسام السياسي والاجتماعي في إيران. وهكذا فإن حدث الوفاة ما كان غير مناسبة ومسوّغ لإعادة الطلاب وجماهير الشباب إلى الشارع، الذي لم يغادروه حقيقة منذ يونيو (حزيران) الماضي. ولو كانت الظروف عادية لكانت وفاة منتظري مناسبة لمناقشة ومراجعة ظروف الثورة والدولة منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، عندما نُحّي الشيخ منتظري عن خلافة الإمام الخميني. فمنذ ذلك الحين برز اتجاهان في فهم laquo;ولاية الفقيهraquo;، الاتجاه الذي يراها مطلقة، والاتجاه الآخر -الذي مثّله منتظري- ويرى أنها مقيدة بإرادة الشعب واختياره من طريق الانتخاب، مثلما تُنتخب سائر المؤسسات الدستورية وبخاصة الرئيس ومجلس الشورى ومجلس الخبراء. وقد عُدّل الدستور بعد تنحية منتظري ليضاف إليه اعتبار ولاية الفقيه مطلقة الصلاحيات مثل ولاية الإمام المنتظَر لو كان حاضرا. ومع ذلك، فإن الرئيس محمد خاتمي -دونما مناقشة علنية لصلاحيات المرشد- أصرّ طوال عهديه بالداخل والخارج على أطروحة laquo;الديمقراطية الإسلاميةraquo; التي لا تتناقض من وجهة نظره مع ولاية الفقيه. وكانت مشكلته بالفعل ليس مع صلاحيات المرشد، بل مع تجاوزات السلطة القضائية، وتجاوزات الأجهزة الأمنية، والتي كان المرشد يتدخل انتقائيا في الحدّ من تغوّلها في المجال العام، ومجال الحريات الشخصية، دونما مساس بتنظيماتها أو مناقشة لصلاحياتها. وقد خفَت النقاش والخلاف على مرحلتين: عام 2001، وعام 2003 بعدما غزت الولايات المتحدة أفغانستان المجاورة لإيران، ثم العراق المجاور لها من الناحية الأخرى أيضا. وقد اعتبر رجالات الحكم في إيران أن سقوط نظامَي طالبان وصدّام حسين، هو فرصة استراتيجية لها. ولذا فقد أظهر هؤلاء تجاوبا محدودا ولكنه مؤثّر في الحالتين.

لكن في عام 2003 أيضا، صارت الجيوش الأميركية محيطة بإيران من ثلاث جهات: جهة أفغانستان، وجهة العراق، وجهة الجزيرة من خلال قاعدة laquo;العديدraquo; بقطر. وبذلك فقد غلب تدريجيا الإحساس بالخطر لدى كل من إيران وسورية. وصعد نجم محمود أحمدي نجاد الذي فاز بالرئاسة في انتخابات عام 2005، وشنّ حملة استراتيجية مضادة دفعا للخطر المحتمل من جهة، وإفادة من الفرص الجديدة للامتداد بالمنطقة على حساب الضعف العربي. لكن يبدو أن الأخطر والأهمّ من المكاسب الخارجية، استخدام تلك الحملة للاستيلاء الكامل من خلال الأجهزة الأمنية على الداخل وتجميده. ولذا فعندما حان موعد الانتخابات الرئاسية مجددا بعد أربع سنوات صاخبة مع الخارج، ما كان هناك أمل لدى الليبراليين بالفوز على نجاد. ولذا فقد كان تكتيكهم استخدام انقسام المحافظين في الصراع على السلطة، للحصول على منفذ للتأثير. وكان ذلك من خلال ترشيح مير حسين موسوي، الذي ما كان ينتمي إلى الإصلاحيين، وإنما كان أدنى إلى تيار وسطي على أثر ابتعاده عن السلطة بعد وفاة الإمام الخميني عام 1989.

لقد نجح تكتيك الإصلاحيين في أمرين: جذب فئات واسعة من الشعب الإيراني من خلال الالتفاف حول وسطي غير راديكالي مثل موسوي (بدلا من مهدي كروبي مثلا)، كما نجحوا في إعادة الشبان والفئات الوسطى إلى الشارع بعد إخماد تمرد الطلاب عام 2003. وساعدت الإصلاحيين ولا شك المبالغة في laquo;تفويزraquo; نجاد من جهة، والقمع الفظيع الذي مارسته الأجهزة ضد المتظاهرين احتجاجا على نتائج الانتخابات. وما أمكن إخماد الاضطراب بعد ذلك، فعادت الفورة في ذكرى وفاة الإمام الخميني، ثم بمناسبة وفاة منتظري، وذكرى عاشوراء. وكل يوم يضيف الإصلاحيون إلى حسابهم رصيدا جديدا بالشهداء من جهة، وبالمسجونين والمعروضين للمحاكمات، ومشاهد القمع في شوارع المدن من جهة ثانية. وهكذا فإن الانقسام العميق قد وقع، وتضاءلت كل الشعارات الأخرى باستثناء شعار واحد: الديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية! وستكون لهذا الواقع الانقسامي المتطوّر مراحله وفصوله ونتائجه بالداخل الإيراني، ولزمن قد يطول، لكن واقع ما قبل الانتخابات الرئاسية لن يعود.

بيد أن الأكثر ظهورا للعيان هو تأثير الاضطراب الداخلي على الحركة الإيرانية الخارجية الإقليمية والدولية، فالواضح أن علاقات إيران بتركيا ما تزعزعت، بل ازدادت وثاقة وفعالية. ومضت تركيا أردوغان خطوات باتجاه النظام الإيراني، وازدادت الشراكات بينهما في الملف الكردي، وفي العراق بعامة، بل وفي التدخل التركي لدى الولايات المتحدة لصالح إيران. وربما كانت تركيا هي التي تشرف منذ قرابة العام على العلاقات الإيرانية/السورية لكي لا يبرز الخلاف أو في الحد الأدنى الافتراق بين النظامين إلى العلن. ولا علاقة للافتراق السوري/الإيراني بالأحداث الداخلية بإيران، فقد اتجهت سورية للعودة إلى المفاوضات مع إسرائيل وجاهدت لاستعادة العلاقات الطبيعية مع الولايات المتحدة، ولا تزال مختلفة مع إيران بشأن الموقف من الحكم القائم بالعراق. كما لا يبدو أن النفوذ الإيراني تأثر بالعراق. فلإيران صِلات وثيقة بالمالكي ومعارضيه، ولذلك بدا غريبا اتجاه الحرس الثوري لاحتلال بعض آبار النفط العراقية دونما تعليل وفي هذا الفترة بالذات إبان اشتعال العلاقات بالغرب، والانتخابات العراقية على الأبواب. أما مع المملكة العربية السعودية فهناك خصومة إيرانية علنية منذ أكثر من عام. وفي مسألة الحوثيين بلغ الانزعاج الإيراني من المملكة حد اتهامها هي بالاعتداء على الحوثيين الذين يُظهرون ولاء شديدا لإيران وحزب الله! وأرسلت زيارة لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني للقاهرة، ووزير الخارجية متقي إلى بيروت، رسائل متناقضة. فمن جهة كان هناك حرص على توثيق العلاقات مع مصر، وإرسال رسائل من خلالها إلى السعودية، ومن جهة ثانية هاجم خطيب الجمعة بطهران أحمد خاتمي السعودية وأيّد الحوثيين، بينما حذّر الأمين العام لحزب الله بلبنان مصر مما تحاول إقامته من جُدُر على حدودها مع غزة. أمّا متقي بلبنان فقد حاول القول إنه يريد لبلاده علاقات مع لبنان بالاستقلال عن سورية.

على أن المشهد الداخلي الإيراني أثّر أكثر ما أثّر في علاقات إيران الدولية، وفي مفاوضاتها من أجل حلّ مسألة النووي. إذ بعد الانتخابات وافقت إيران على التخصيب خارج حدودها، فسارعت المعارضة الداخلية إلى اتهام أهل السلطة بالاضطراب في فهم مصالح البلاد والتفريط فيها. إذ الأزمة كلّها ومنذ عام 2005 قائمة على أساس التخصيب، فما الداعي للانتظار والتوتير هذه المدة والإضرار بالمصالح وتحمُّل العقوبات، إن كان التخصيب مقبولا خارج إيران؟! ثم تعقّد الملف، وأعلن الرئيس نجاد عن خمسة أو عشرة مفاعلات يُراد إنشاؤها بالداخل! ويتجه الأمر الآن إلى زيادة العقوبات على إيران في شباط (فبراير) المقبل. وما عاد النظام مستطيعا التراجع بالنظر إلى التوتر الغربي تجاهه، وانكشافه لجهة روسيا، والصمت المطبق من جهة الصين، واستمرار الاضطراب في مركز القرار.

وقد كان الإسرائيليون وأحيانا الفرنسيون يتهددون إيران بالحرب، لكن اللهجة هذه خفتت بالنظر إلى تأثّر الغربيين أيضا بالمشهد الداخلي الإيراني. إذ يقال في دوائر القرار الآن إن الحرب على إيران -أو حتى على حزب الله- كفيلة بجمع الإيرانيين من حول السلطة، بينما الاكتفاء بالعقوبات، إنما يزيد من السخط؛ لأن الأوضاع الاقتصادية في إيران سيئة أصلا. لكن ماذا يُحتمل أن تفعل إيران إن زيدت العقوبات عليها للمرة الرابعة؟ ستستمر في التخصيب وتزيد فيه بقدر ما تستطيع بالفعل. لكن هل تستثير حزب الله أو حماس؟ يصعب تصوّر ذلك. فحماس فرضت حتى على الفصائل الأخرى هدنة غير معلَنة مع إسرائيل. والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ورغم حملته الشديدة على المسيحيين الذين يعترضون على سلاحه، في خطابه الأخير بعاشوراء، اقترح على خصومه هدنة لمدة عام، ما كان واضحا ماذا يقصد منها. هل كان يقصد أن إسرائيل ستهاجم الحزب ولبنان فتثبت ضرورة سلاح الحزب، أم كان يقصد أن إيران قد تتفق مع المجتمع الدولي، فلا تعود هناك ضرورة للتهديد بالسلاح في الخارج والداخل؟!

على أن المشهد قد يتغير بالفعل من حول إيران إذا استطاعت إخماد الاضطراب بداخلها، إذ عندها سيضطر الدوليون إلى تحسين شروطهم مع النظام الثابت إلى الأبد. كما أن تطورات قد تحصل في الملف التفاوضي بين إسرائيل والفلسطينيين. إذ هناك ما يدل على أن الدعوة الفرنسية إلى مؤتمر دولي حول القضية الفلسطينية قد تجد آذانا صاغية من الأطراف الكبرى والأطراف العربية، فلا تستطيع إسرائيل الرفض وقد جاء نتنياهو إلى القاهرة ليس من أجل شاليط وصفقة الأسرى فقط، بل ليحاول استباق المؤتمر الدولي بنوع من التفاوض -ولو بالواسطة- مع السلطة الفلسطينية. وفي كل الأحوال، فإن نجاح الغرب -إن كان- ولو شكلا في الملف الإسرائيلي/الفلسطيني، سوف يقوّي جانبه مع إيران لجهة التمادي في الحملة على ملفها النووي، وسلاحها الصاروخي.

حذّر الأمين العام لحزب الله المسيحيين اللبنانيين من أن يقعوا كالسابق، في غلطة انتظار هجوم إسرائيلي على الحزب، كما حذّر مسؤولون آخرون بإيران العرب من الغلطة نفسها. لكن الواقع أن توتر الأمين العام لحزب الله، وتوتر المسوؤلين الإيرانيين، ما كان سببه الخوف من هجوم إسرائيلي، بل لأن عيونهم جميعا كانت ولا تزال موجّهة إلى الداخل الإيراني الثائر والموّار.



الانقسام في إيران وتأثيراته الإقليمية والدولية