حازم صاغية

لا يزال الانشقاق الثقافيّ الفرنسيّ حيال حرب الجزائر موديلاً لسجالات المثقّفين وانشقاقاتهم. والراهن أن كلّ عودة إلى ذاك السجال الخلافيّ يعيد لدينا، أو ينبغي أن يعيد، طرح السؤال: هل يمكن للحياة الثقافيّة العربيّة أن تحضن خلافاً مفتوحاً كهذا، وحيال مسألة يُفترَض أنّها محطّ إجماع يتّصل بـquot;كرامة الشعبquot; وquot;مصلحة الأمّةquot; وquot;التصدّي للعدوّquot;؟

فالحرب الجزائريّة- الفرنسيّة، على ما بات معروفاً جيّداً، انطوت على أبعاد لم تملك مثلها أيّ من الحروب الاستقلاليّة ما خلا تلك الفيتناميّة- الأميركيّة في الستينيات. وكان لهذه الأبعاد الكثيفة أن تعدّت السياسة إلى الثقافة والمثقّفين أنفسهم. فقد خلقت انقسامات حادّة داخل فرنسا ذاتها مؤذنة بنهاية الجمهوريّة الرابعة وملوّحة باحتمال اندلاع حرب أهليّة في بلد المتروبول الاستعماريّ. ذاك أن مثقّفي اليسار، بالمعنى العريض للكلمة، رأوا في المستوطنين الأوروبيّين فاشيّين محليّين، وذهب بعض هؤلاء المثقّفين إلى حدّ العمل مع المقاومة الجزائريّة السريّة وتبييض الأموال لها، معتبرين أنّهم، بدعمهم ثورة الجزائر، يعبّرون عن الوفاء لقيمهم الجمهوريّة ولمناهضة الفاشيّة، بينما رأى قليل منهم أنّ نجاح ثورة الجزائر وإفضاءها إلى الاستقلال يقصّران طريق فرنسا إلى الثورة الاشتراكيّة. وقد برز في هذا المجال خصوصاً الفيلسوف والكاتب الوجوديّ جان بول سارتر الذي وقف في مقابله الأديب ألبير كامو: فهذا الأخير بعد أن شارك في المقاومة ضدّ النازيّة وعاش في الجزائر فقيراً من فقراء وهران، وعرف البلد والشعب، بطبيعة الحال، أكثر بكثير من سارتر، حذّر من عبثيّة العنف ومن الأهداف التي رآها سلطويّة لدى quot;جبهة التحريرquot;، مجادلاً بأن الأمل الوحيد للجزائر يكمن في مصالحة وتفاهم ينهيان العنف بين الفرنسيّين والجزائريّين. وقد ناضل quot;كاموquot; دفاعاً عن موقف إنسانيّ، شاجباً العنف من الطرفين ومستخدماً ما وسعه من نفوذ أدبيّ وعلاقات شخصيّة لإخلاء عدد من الوطنيّن الجزائريّين من سجون فرنسا. وفي يناير 1956، دعا إلى quot;هدنة مدنيّةquot; تنحصر، بموجبها، الأعمال العنفيّة للحكومة الفرنسيّة وquot;جبهة التحرير الوطنيّquot; في أهداف عسكريّة بحتة لا تتعدّاها إلى المدنيّين في الطرفين. لكنّ أحداً، وسط ذينك الاستقطاب والاستنفار الشاملين، لم ينصت إلى كلامه الذي بدا لكثيرين تبشيريّاً ووعظيّاً.

بيد أن quot;كاموquot; لم يكن حياديّاً تماماً. فانتقاداته لممارسات الجيش الفرنسيّ شرعت تتراجع بوتيرة تدريجيّة، وهو لم يهضم الطموحات الوطنيّة للجزائريّين مُصرّاً على أن الوطنيّة الجزائريّة لا تقوم إلاّ على مصدر وحيد من طبيعة عاطفيّة. وهو، في جلساته الخاصّة، جعل يصف حرب فرنسا بأنها دفاع عن الذات معارضاً التفاوض مع quot;جبهة التحريرquot;! وكمثل الحكومة الفرنسيّة كان quot;كاموquot; ينتظر محاوراً يعتبره مقبولاً ويكون بمثابة قوّة ثالثة تستطيع فرنسا معها أن تفاوض في سبيل تسوية تحمي الأقليّة الأوروبيّة في الجزائر.

وكما أدرك مراقبون أكثر برودة كعالم الاجتماع ريمون آرون، فإن قوّة ثالثة كهذه لا يمكن أن توجد وسط استقطاب من النوع القائم. ففي كتابه عام 1957 quot;المأساة الجزائريّةquot;، وكما ينقل عنه quot;جيمس لو سورquot; في كتابه quot;الحرب غير المدنيّة: المثقّفون وسياسات الهويّة إبّان نزع استعمار الجزائرquot;، جادل quot;آرونquot; بعدم وجود بديل مقنع عن انسحاب فرنسا الكامل. وهي الخلاصة نفسها التي انتهى إليها شارل ديغول ذاته بعدما وصل إلى السلطة، عام 1958، فيما هو يعد بعدم التخلّي أبداً عن الجزائر quot;الفرنسيّةquot;. وكان ديغول، في هذه الغضون، يستنفد البدائل ويمتحن الاحتمالات الأخرى، محرّراً فرنسا مما سمّاه آرون quot;نزفquot; الجزائر وحائلاً دون حرب أهليّة في بلده ذاته. لكنّ ديغول بقراره الشجاع هذا إنّما خلّف ميراثاً مُرّاً، لاسيّما بين أكثر من مليون جزائريّ أوروبيّ هربوا إلى فرنسا، معتبرين أن وطنهم الأصليّ خانهم وخذلهم وتخلّى عنهم. وهو شعور شاركهم إيّاه كثيرون من الجنود الذين أُرسلوا إلى الجزائر للدفاع عنهم. هكذا وبعد محاولات فاشلة وتآمريّة لإطاحته، أو قتله، ولضرب الاستقرار في فرنسا، كما في الجزائر، قامت، في أغسطس 1962، quot;منظمة الجيش السريّquot;(OAS) بمحاولة لاغتيال ديغول، وكادت المحاولة تلك تنجح. والمنظّمة المذكورة لم تكن أكثر من مجموعة إرهابيّة شبه عسكريّة تشكّلت من نضاليّي quot;الأقدام السوداءquot; (التسمية التي أُطلقت على المستوطنين)، ومن الجنرالات الذين لم يسامحوا شارل ديغول على quot;تركهمquot; لمصيرهم.

والحقّ أنّ quot;منظّمة الجيش السريّquot; التي شكّلت آخر معاقل مقاومة quot;الأقدام السوداءquot;، بأفق عنصريّ وفاشيّ ومغامر، كانت تخوض آخر معاركها في المدن والتي وشت طبيعتها بطابع عملها اليائس. ففي 1958 استولى الرعاع الأبيض، بدعم من بعض القادة العسكريّين، على مدينة الجزائر وهدّدوا السلطة المركزيّة في باريس، مطالبين بنظام جديد يضمن بقاء الجزائر فرنسيّة. وهم لئن أسقطوا الجمهوريّة الرابعة إلاّ أنّهم أتوا بديغول ليكون بطلهم المخلّص. وبالتدريج، وكما سبقت الإشارة، تحوّل ديغول إلى اعتناق وعي عمليّ مفاده أنّه لابدّ من التوصّل إلى تسوية سلميّة وشاملة تكون مقنعة للجزائريّين. وإذ أدرك السياسيّون والجنرالات أن قائدهم وقدوتهم يخونهم، نزعوا إلى التمرّد عليه باسم quot;الجزائر الفرنسيّةquot;، فتصدّى ديغول لتمرّدات ثلاثة متلاحقة وأحبطها الواحد بعد الآخر: quot;المتاريسquot; في 1960، وquot;عصيانquot; الجنرالات في 1961، وأخيراً محاولة الانقلاب في 1962.

وقصارى القول إنّ الموقف الثقافيّ المنشقّ إنّما واكب تلك التحوّلات المصيريّة، فكان جناحه السارتريّ حارّاً ومتحمّساً في الدفاع عن الجزائر واستقلالها، وكان في جناحه الكامويّ حارّاً ومتحمّساً في دفاعه عن السلام وإنهاء العنف. ولئن جاز للبعض نقد هذا الأخير بوصفه يدعم، على نحو موارب، موقف فرنسا، بقي أنّ quot;دعمهquot; لم يتّخذ شكل قرع الطبول القوميّة أو الدينيّة.

هذه الصفحة من تاريخ فرنسا، لاسيّما فرنسا الثقافيّة، هل يقول التذكير بها، أيّ شيء للحياة الثقافيّة العربيّة؟