أحمد محمود عجاج

في انتقاد موجع وصف أحد رجال الثورة، وأحد المرشحين لانتخابات الرئاسة الإيرانية الأخيرة، مهدي كروبي، حكومة الرئيس أحمدي نجاد بأنها أسوأ من حكومة الشاه التي أسقطتها الثورة الإسلامية؛ تساءل كروبي مفسرا اتهامه: quot;كيف بوسع تلك الحكومة إراقة دماء شعبها وبالذات في يوم عاشوراءquot;. ولكي ينزع الشرعية المطلقة عن الحكومة النجادية، أكد كروبي أن حكومة الشاه السابقة كانت تحترم مناسبة عاشوراء، وأن الذين واجهوا المتظاهرين ليسوا إلا quot;وحوشا بشريةquot;. هذه العبارات القاسية لها دلالة كبرى على أن الثورة الإسلامية قد وصلت نقطة الذروة وبدأت بالفعل بالهبوط الذي قد يكون سريعا، وقد يكون بطيئا؛ لكنه في النهاية يبقى هبوطا مؤلما لثورة حملت لأبنائها الكثير من الآمال، وللكثيرين في الخارج الكثير من التمنيات.
مشكلة إيران لم تبدأ مع الجدل حول نزاهة الانتخابات بل قبل ذلك بكثير، ويمكن القول إنه منذ رحيل الزعيم آية الله الخميني، وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، تعيش إيران مرحلة من التحدي أكبر بكثير من الحرب التي خاضتها مع العراق؛ فليس غريبا على ثورة شعبية أن تصمد في وجه الخطر الخارجي، فثمة شواهد كثيرة تؤكد أن الخطر الخارجي يعزز لحمة الشعب، وينهض بمعنوياته، ويرفع سقف التضحية إلى مستويات عليا. لكن مشكلة الثورة تبرز عند زوال الخطر وعندما يبدأ الناس يفكرون بمستقبلهم، ولقمة عيشهم وهنائهم وكرامتهم، وهو ما يحصل بالفعل في إيران التي توقع شعبها بعد انتهاء الحرب أن يستلذ بثمرة النصر، وينعم بفيء الثورة. لكنه وجد قيادته تعيش نوعا من التخبط في رسم المسار وتحديد ملامح السياسة الداخلية والخارجية لمرحلة ما بعد حرب العراق. فمرحلة رئاسة رفسنجاني تميزت بالحفاظ على مبادئ الثورة ولكن من دون تحمس فعلي لتطبيقها، وفشل واضح في حل المشاكل الاقتصادية، وتردٍّ كبير في الشفافية، وانتشار المحسوبية؛ لذلك كان عاديا أن يتحدث مواطنون عن صفقات ضخمة يحصد ريعها مقربون من رفسنجاني ومن عائلته، لدرجة أن الرئيس نجاد لم يستطع مسك لسانه، فأخرج شيئا من الفضائح بحق رفسنجاني وأبنائه، مما استدعى تدخل مرشد الثورة، لكي لا يفقد الناس الثقة ليس فقط بقادة الثورة بل بالثورة نفسها.
سنوات عجاف عاشها الشعب الإيراني، لكنه انتظر بفارغ الصبر الانتخابات ليُخرج من يراه ليس أهلا لمتابعة مشوار الثورة والإصلاحات، فانتخب بأعداد هائلة خاتمي، الذي وعد بالتغيير في الميدانين: الداخلي والخارجي، لكن وعوده بقيت وعودا ولم تترجم على أرض الواقع. ويمكن قول الكثير في أداء خاتمي، لكن باختصار لا بد من الاعتراف أن الدستور الإيراني قد فصّل تفصيلا دقيقا يجعل من الصعب على رئيس منتخب أن يغير قواعد اللعبة أو يقلب موازين القوة التي تجمعت كلها بيد نخبة من رجال الدين الأقوياء. وقد استطاع هؤلاء أن يتعايشوا مع خاتمي لكنهم لم يكونوا راضين تماما عن أدائه المنفتح، ونظرته للتعايش السلمي، فكان أن حشدوا قواهم، واستخدموا نفوذهم، لضمان وصول مرشحهم المطيع أحمدي نجاد إلى السلطة؛ بالفعل وصل نجاد بعدما أطلق في حملته الرئاسية الأولى الكثير من الاتهامات، والكثير من الوعود بإغداق أموال النفط على الشعب، وتحسين حال الفقراء، والتمسك بمبادئ الثورة التي لا تزال تعشعش في كثير من رؤؤس أبنائها.
لم يحقق نجاد شيئا من وعوده بل أنفق الأموال على حشد الأنصار في الخارج، وتحقيق التفوق العسكري والتقني، فكانت مواجهة باردة حينا وساخنة أحيانا مع الغرب الذي لم يجد غضاضة في احتضان إيران ومع العرب الذين بدأوا يستشعرون متأخرين بالخطر الإيراني الأيديولوجي. هذه السياسة الإيرانية التي رسمها رجال الدين في قم بدأت ترخي بثقلها على الوضع الداخلي المترنح اقتصاديا والمتزمت اجتماعيا؛ فالاقتصاد الإيراني في حالة يرثى له، والتضخم في أعلى مستوياته، والناس بدأت تعاني أكثر مما كانت تشعر به أيام رفسنجاني وخاتمي، وبدأت تتململ وتتذمر؛ لذلك لم يكن غريبا أن يخرج الناس للشوارع منددين وقائلين إنه أجدى لإيران أن تنفق أموالها على أبنائها من أن تنفقها على حزب الله أو حماس أو حركات ثورية أخرى في أنحاء مختلفة من العالم. وقد ازدادت أزمة النظام أكثر بعدما تنبه الخارج والعرب إلى خطر سياساته، فصعدوا وتيرة المواجهة التي بدأت خجولة، وتصاعدت تدريجيا لتصبح اتهامات مبطنة للنظام بأنه يدبر القلاقل ويثير أبناء البلد الواحد على بعضهم. وبالطبع فإن هذه المواجهة الباردة تستدعي من الطرفين بذل الكثير من الموارد، وهو ما أثر أكثر على الوضع الإيراني الداخلي، وسيؤثر أكثر عندما تزيد الدول الكبرى حصارها وعقوباتها على إيران.
وصلت الأمور في إيران إلى مفترق خطر لا بد للقيادة أن تعيه تماما وإلا فإن الأمور ستفلت ويستفحل شأنها وسيكون خطرها كبيرا على إيران. لقد قال الشعب كلمته وشكك في الانتخابات وكان الحري برجال الدين القابضين على السلطة وبالذات آية الله مصباح يزدي الذي يدين له الباسيج والحرس الثوري بالطاعة أن يحققوا جديا في العملية الانتخابية لكي يتضح من هو الفائز، طالما سيبقون في النهاية الحكام الفعليين؛ لكن عمى السلطة والخوف من فقدها جعلهم يصادقون على رئيس تشك نسبة كبيرة من الشعب بشرعيته، ونسبة أكبر لا تقبل بسياساته.
إيران أمامها حلان: إما أن تراجع القيادة نفسها وتفكر ثانية في سياستها الخارجية وجدواها، ومدى ضررها على الوضع الداخلي، أو أن تمضي قدما في سياسة العصا التي قد تتصاعد وتنتهي إما بسجن موسوي وخاتمي وكروبي أو أي شيء آخر.
يبدو أن نجاد والقيادة الدينية خلفه قد اختارت الأخيرة، ومعها ستجد إيران نفسها بين مطرقة الداخل وسندان الخارج؛ إنه وضع لا تحسد عليه إيران.