محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

هناك مقولة تتردد على شفاه كثير من علماء السلف تقول: (الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال). ومع ذلك، هناك بعض القضايا لا يقدم المجادلون فيها نصاً، أو قياساً منضبطاً لما يطرحون؛ وإنما يلجؤون إلى قال فلان وأفتى فلان.

وأتذكر بهذه المناسبة قصة أشبه ما تكون بالحوار الذي يدور الآن بين محرمي ما يسمى بالاختلاط وبين من يقولون بالحل إذا لم يُفض إلى محرم، وهي قضية (تحريم القهوة) أول ما ظهرت، وقد سبق وكتبت عنها موضوعا مستقلاً قبل أشهر. الذين حرموا القهوة كانوا يحرمونها آنذاك ليس لذاتها، وإنما لأن هناك مجرد (احتمال) أن من يجتمعون لشربها يتداولون أحاديث قد تفضي بهم إلى محرم؛ فكان التحريم من باب سد الذريعة. الغريب أن (أفتى) فلان كان هو المستند الذي كان مُحرمو القهوة يتكئون عليه، وقد قال شاعرٌ في ذلك:

حَرّموا القهوة عمداً

ورووا إفكاً وبُهتا

إن سألتَ النص قالوا

ابن عبد الحق أفتى

وابن عبدالحق هذا كان من علماء الشافعية في زمنه، كما جاء في كتاب (عمدة الصفوة في حِلِ القهوة) لعبد القادر بن محمد الجزيري الحنبلي من فقهاء القرن العاشر الهجري.. طيب؛ إذا كانوا يرددون: (الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال) فكيف يستقيم هذا التأصيل منطقياً، أعني أفتى فلان، مع هذه المقولة؟

هذه واحدة..

أما الثانية، فإن من قالوا في الاختلاط بالإباحة المشروطة هم أيضاً علماء، مثل الشيخ محمد العيسى والشيخ أبا حسين والشيخ المبارك، إضافة إلى الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، ولا يستطيع كل المرجفين الاعتراض على أهليتهم العلمية. فإذا اتفقنا على أهليتهم العلمية، تتحول القضية على الأقل إلى قضية خلافية بين من يقول بالحل ومن يقول بالحرمة، والسؤال هنا: هل يحق للشيخ الدكتور عبدالرحمن الأطرم أن يشن على الدكتور أحمد الغامدي هذه الحملة (الشعواء) لمجرد أن الشيخ الدكتور الغامدي رجح رأياً لم يرجحه (بعض) كبار العلماء؟.. للشيخ الدكتور الأطرم أن يختلف مع الدكتور الغامدي، وله أن يفند أقواله، لكن ليس له (إطلاقاً) أن يمارس عليه (وصاية فكرية) طالما أن رأيه الذي قال به ليس رأياً شاذاً، وإنما يوافقه في ذلك مجموعة من كبار العلماء في الداخل والخارج، وطالما أن النصوص التي أوردها، واتكأ عليها، أقوى من النصوص التي أصّلَ بها مخالفوه ممن يرون المنع. وهذا لا يعني إطلاقاً أن الشيخ الدكتور الغامدي إذا رجح رأياً يخالف به رأياً لأي من العلماء أنه يختلف أو يتفق مع هذا العالم أو ذاك في كل أقواله، فكما قال الإمام مالك -رحمه الله- (كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبره صلى الله عليه وسلم؛ ولا أحد بعده عليه أفضل الصلاة والسلام يملك العصمة من الخطأ.

النقطة الثانية التي أريد أن أنبه إليها الشيخ الدكتور الأطرم أن فقه الاختلاف في الإسلام من أهم الأسباب التي أعطت لشريعة الإسلام مرونتها، وقدرتها على مواكبة الظروف، والمتغيرات؛ فعندما نضيّقها على قال فلان وأفتى فلان، ونعتبر أقوال بعض المفتين هي الإسلام الذي لا إسلام غيره فنحن إنما نضيّق واسعاً، لذلك، فإن تسفيه الشيخ الدكتور الأطرم لرأي الشيخ الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي في الاختلاط، على اعتبار أنه خالف علماء أجلاء، يفتقر إلى الحجة، طالما أن فقه الاختلاف مشروع ولا يمكن لأحد أن يلغيه؛ وطالما أن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال كما يقول علماء السلف.