عبدالوهاب بدرخان


كلما ظهر الإرهاب، وفقا لمعطيات العقدين الأخيرين على الأقل، كان ذلك مؤشراً على ضعف الدولة أو على أخطاء ارتكبتها، وكلما فشلت مكافحة الإرهاب كان ذلك إيذانا بانعدام الرؤية الشاملة لحركة المجتمع واحتياجاته، وحتى في الحالات التي اعتبرت المكافحة فيها ناجحة كان الثمن باهظا دون أن تزول الشكوك في جدوى هذه المعالجة على المدى الطويل، فالإرهاب ليس طبيعة ثانية، وليس قدرا، وإنما هو ظاهرة ينبغي إدراك دوافعها والاعتراف بها ومقابلتها بالسياسة الملائمة لتعطيل مفاعيلها.
عندما حصلت هجمات 11 سبتمبر 2001، وحظي قسم منها ببث مباشر على الشاشات، عم العالم استنكار عفوي وحقيقي ما لبث أن تحول تعاطفا مع الولايات المتحدة ثم قبولا للحرب التي شنتها على البؤرة المعلنة للإرهاب، أفغانستان، لكن هذين التعاطف والقبول لم يعنيا ولا في أية لحظة، أن سياسات الولايات المتحدة حيال النزاعات الدولية حكيمة وصائبة، أو أنها باتت ndash;للمناسبة- مقبولة.
بعد مرور ثمانية أعوام على ذلك الحدث، أصبحت quot;الحرب على الإرهابquot; من السياسات الأمريكية التي يوجه إليها أقسى الانتقادات وذلك لسبب بسيط ومفهوم هو ان تلك الحرب أدت إلى انتشار الإرهاب وتوسيع خريطته وزعزعة استقرار بعض البلدان التي كانت بمأمن منه أو كانت تتعامل مع جذوره بحكمة وسلاسة للحيلولة دون ركوبه موجة العنف الأهوج، فلدى كل مجتمع متطرفوه، ولكل مجتمع طريقته في ترويضهم، وبالتالي إبقاؤهم في الإطار المحلي.
حالتا أفغانستان والصومال واضحتان في تبيان كيف أن الإرهاب استفاد من غياب الدولة، أو بالأحرى غياب مفهومها، إلى أن حل محلها، والأكيد أنه لم يكن ولن يكون قادرا على طرح أو إيجاد بديل لها، فكل ما يستطيعه هو أن يستخدم الغطاء الديني ليبرر الفوضى التي ينشط في ظلها ويتغذى منها، ورغم اليقظة الدولية المفترضة حيال الإرهاب، بل رغم الوجود العسكري الدولي في أفغانستان مثلا، وربما بسبب هذا الوجود أيضا، لم تتمكن الدولة من النشوء أو من إعادة بناء مؤسساتها، تحديدا بسبب مرور وقت طويل اعتاد فيه المجتمع بما في ذلك نخبته على تدبير شؤونه في غياب الإطار القانوني الذي تشكله الدولة، ولا شك أن الصومال الذي أمضى عقدين حتى الآن من دون دولة، يعاني حاليا وسيعاني لفترة طويلة مقبلة من تلاشي المفهوم الجامع الذي تمثله الدولة، ومن غيابه لمصلحة الجماعات القبلية وميليشياتها المسلحة.
أما حالات مصر وتونس والجزائر التي ينظر إليها على أنها تخطت مرحلة الخطر أو ربما طوتها، فنجد أن التبعات الاجتماعية والسياسة كانت ولا تزال هشة ومريبة، وبمعزل عن تونس التي لم تعرف حالة يمكن وصفها بالإرهابية بل ان الدولة اصطنعت شبهة quot;الإرهابquot; واستغلتها لتعزيز تسلطها واستبدادها، فإن حالتي مصر والجزائر تقدمان نموذجاً للضمانة التي توفرها الدولة ومؤسساتها لاحتواء العنف والتطرف. لكن، هنا أيضا لم تستفد هذه الدولة من quot;النجاحquot; الذي حققته لتبني حالة وئام سياسي واجتماعي تدعم ذلك النجاح وتعززه ليوفر مناعة مستقبلية، ففي البلدين لايزال هناك نقص فادح في التنمية بمختلف قطاعاتها، وعندما تتوافر الرؤية لا تتوافر الإمكانات أو العكس، بعكس ذلك أن النظامين مهووسان بالحلول الأمنية وحدها.
في اليمن تدق التحليلات الآن نواقيس الخطر، فهناك دولة لا تزال قادرة إلا أن مشاكلها باتت تبدو كأنها أكبر منها، ويكمن الخطر في تداخل محتمل بين الظاهرة الإرهابية التي يمثلها تنظيم القاعدة والصراعات البنيوية التي تضع الدولة في صراع عسكري مع مناطق جنوبية تنزع إلى الانفصال ومناطق شمالية دخلت في تمرد سياسي، المشكلة أن الدولة تأخرت كثيراً، وعندما قررت أخيرا ان تتحرك وجدت نفسها أمام واقع صعب كأنها تتعرف إليه لتوها، وللأسف أصبح معروفا أن اكبر الانجازات الأمنية التي يمكن أن تحققها لن تكفي لتصويب الوضع الذي تفاقم بسبب الإهمال والتهاون واللامبالاة، خصوصا بسبب التعامي عن الحقائق وعدم الاعتراف بها للتعامل معها إما احتواء، وإما معالجة.
هذه الدول وأخرى غيرها، عانت وتعاني من إسقاطات الحرب على الإرهاب وإخفاقاتها غير الأمنية بل السياسية، إذ أن تلك الحرب رسخت ذهنية مكافحة الإرهاب بالنار الكثيفة والقتل المستديم، وهو ما يمكن ان ينجز بعض الهدف وليس كله، فلا الولايات المتحدة، ولا حلفاؤها، ولا الدول المتضررة، اهتمت أو استطاعت أن تضع خريطة طريق، ولو نظرية، لما يمكن عمله لمواكبة الحملات الأمنية، بالطبع اجتهد الخبراء لوضع اقتراحات وأفكار في هذا المجال، لكن الطابع الطويل المدى لمخطط المواكبة السياسية والتنموية لم يحفز المعنيين على المثابرة في العمل، كما أن السلبية التي أظهرها بعض الأنظمة والحكومات أحبطت العزم على تنفيذ تلك الخطط، وفي الحالات القليلة التي كانت هناك استجابة تبين أنها جاءت من دوائر غارقة في الفساد وجدت في العروض الدولية مجالا إضافيا للاستفادة.
كانت ابرز الانتقادات التي سيقت من قبيل الاستياء، بعد محاولة نسف الطائرة في أجواء ديترويت يوم عيد الميلاد، إن عودة التهديد الإرهابي تعني أن الولايات المتحدة لم تع الدرس التاريخي بعد هجمات 11 سبتمبر وبطبيعة الحال كان الدرس المقصود أن ما حصل قبيل تلك الهجمات من إهمال وعدم تنسيق للمعلومات من الأجهزة المختصة فتح الثغرة التي مر منها المهاجمون، ولدى استعراض الجهد والمال الهائلين اللذين بذلا لإعادة تنظيم عمل تلك الأجهزة يمكن فعلا فهم مغزى هذا الدرس، لكن الأسئلة التي طرحتها تلك الهجمات على أمريكا، ومن ثم الأسئلة التي طرحتها عليها quot;الحرب على الإرهابquot; نفسها لا تزال من دون إجابات فالدروس كثيرة لكن أمريكا تعاملت معها بانتقائية، ولذلك كان الإخفاق وربما يستمر.