الإرهاب والمقاومة... بين العمى السياسي والفقهي

محمد عابد الجابري

إذا أراد المرء اليوم القيام بإحصاء في خطاب وسائل الإعلام العربية، المسموعة والمرئية والمكتوبة، لمعرفة أي الكلمات أكثر رواجاً فيه، فإنه سيصل إلى النتيجة التالية: الإرهاب في عبارة محاربة الإرهابquot;ويمكن تفسير اقتران اللفظين الإرهاب - محاربة... بإضافة اسم الرئيس الأميركي السابق بوش الابن. ذلك لأنه هو الذي رفع شعار محاربة الإرهاب، بعد الحادثة التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر 2001، وظل يرفعه طوال ولايتيه الأولى والثانية، الشيء الذي يسمح للمؤرخ لمفردات رؤساء الولايات المتحدة الأميركية أن يسجل بكل سهولة أن خطاب بوش، طوال مقامه في البيت الأبيض، كان يدور حول كلمة واحدة هي quot;الإرهابquot;. وها هو أوباما، وفي جانبه رؤساء كبرى دول أوروبا، يرددون نفس الشعار: شعار quot;محاربة الإرهابquot;، تماماً كما كانوا يرددون بدون كلل أو ملل شعار quot;محاربة الشيوعيةquot; قبل سقوط الاتحاد السوفييتي!

إن التمسك بلفظ quot;الإرهابquot; صار quot;ضرورة خَطابيةquot; عند الدول الغربية، تماماً كما كان لفظ quot;محاربة الاستعمارquot; لدى زعماء وقادة دول العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات. وأنا أعني بعبارة quot;ضرورة خَطابيةquot; (بفتح الخاء نسبة إلى الخَطابة)، بمعنى أنه لو طلب من هؤلاء وأولئك أن يحذفوا من قاموسهم اللفظ الذي يرفعونه شعاراً لما استطاعوا الكلام. ومما يزكي هذا الافتراض أن حذف لفظ quot;الإرهابquot; من الخطاب السياسي لقادة أوروبا الذين نحوا نحو بوش قد يفسح المجال للفظ آخر يغيبه هذا الخطاب بكل إصرار، أقصد لفظ quot;المقاومةquot;. تماماً كما أن حذف لفظ quot;الاستعمارquot; من خطاب قادة العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات قد يفسح المجال للفظ آخر، كان شعار quot;محاربة الاستعمارquot;، يغيبه بكل إصرار أيضاً، أعني quot;الديمقراطيةquot;. وفي نظري فإن تغييب لفظ المقاومة وإحلال لفظ quot;الإرهابquot; مكانه، وإقصاء كلمة الديمقراطية وإحلال لفظ quot;الاستعمارquot; شيء لا يفسره غير الرغبة في نشر وتعميم العَمَى السياسي.

إن هذا لا يعني أن quot;الإرهابquot; غير موجود ولا أن الاستعمار قد رحل نهائياً، ولكن التعامل معهما كـquot;الشجرةquot; التي تخفي quot;الغابةquot; لا يفسره سوى الخوف من استرجاع العقل السياسي، هنا وهناك، سلامة البصر والبصيرة. ذلك لأن تعريف شيء من الأشياء يقتضي فصله عما ليس هو إياه، وقديماً قالوا: quot;بضدها تتميز الأشياءquot;. وواضح أن تعريف الإرهاب يقتضي تمييزه عن شيء آخر، خصوصاً ما فيه مظنة أن يلتبس به. وليس هناك شيء أقرب إلى أن يلتبس به مفهوم quot;الإرهابquot; من مفهوم quot;المقاومةquot;. والشيء نفسه يقال عن رفع شعار quot;محاربة الاستعمارquot; عندما يراد منه تغييب الديمقراطية، بمعناها الواسع، السياسية منها والاجتماعية. والسياسة الأميركية لا تريد أن يستعيد العقل السياسي في الولايات المتحدة مفهوم المقاومة، خصوصاً ولهذا المفهوم مكانة رفيعة في تاريخها. فقد قام الشعب الأميركي بمقاومة الاستعمار الإنجليزي فحقق استقلاله وشيّد ولاياته المتحدة التي أصبحت أقوى دولة في العالم.

ومن دون شك فإن استعادة ذاكرة الشعب الأميركي لتجربة المقاومة التي خاضها أجداده سيؤدي إلى الاعتراف بالمقاومة الفلسطينية والتعاطف معها. وهذا ما لا تستطيع تحمله السياسة الأميركية المُطبَّقة محلياً، لأن في ذلك إلغاءً لهذه السياسة. والشيء نفسه يصدق على شعار quot;مقاومة الاستعمارquot; حين يراد منه تغييب شعار الديمقراطية في العالم الثالث.

هذا جانب. وهناك جانب آخر يمكن التعبير عنه بـquot;العمى الفقهيquot; الذي أصاب بعض الأبصار والبصائر التي تلتمس للفظ quot;الإرهابquot; مرجعية في القرآن الكريم، وللفظ الديمقراطية أصلا في مفهوم quot;المستبد العادلquot;

أقول هذا لأنه قد أتيح لي مراراً أن أسمع من ُيدخل في القاموس الإسلامي لفظ quot;الإرهابquot; كما تتداوله الألسنة اليوم، مستشهداً بقوله تعالى: quot;وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْquot; (الأنفال- 60). فمجرد ورود كلمة quot;ترهبونquot; في هذه الآية كافٍ عندهم للقول بوجوب القيام بـquot;الإرهابquot; كما يستعمل في الخطاب الإعلامي المعاصر.

وللمرء أن يتساءل: علامَ يعتمد هؤلاء في هذا التأويل الذي يقولون به؟

يخيَّل إلـيَّ أن بعض الفقهاء الذين أفتوا في عصر انحطاط الفكر الإسلامي بالقول: إن تفسير القرآن quot;صوابه خطأ، وخطؤه كفرquot;، الشيء الذي أدى إلى الاقتصار على تلاوة القرآن في المساجد كما يقرأ في المقابر، قد فعلوا ذلك لجعل حد لذلك النوع من التفسير والتأويل الذي كان يفرزه عصر الانحطاط، والذي لم يكن يعتمد فيه quot;المفتونquot; للعامة (بلسان العامة وعلى مستوى جهلها) على أدنى معرفة بالشروط المطلوب توافرها في كل من يتصدى للإفتاء والتفسير.

والواقع أنه ليس فيما ذكره جميع المفسرين، بما في ذلك الذين عاشوا في عصر الانحطاط، ما يفيد أنهم فهموا من قوله تعالى، في الآية السابقة quot;تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِquot;، ما تعنيه كلمة quot;الإرهابquot; في الخطاب الإعلامي المعاصر. بل كلهم مجمعون على أن معناها هو التخويف: تخويف العدو بإظهار القوة والاستعداد للتصدي له الشيء الذي قد يثنيه عن خوض الحرب خوف الهزيمة. وقد شرح الفخر الرازي في تفسيره المقصود بالآية المذكورة فقال: quot;وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة، أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية. وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان. رابعها: أنهم لا يعينون سائر الكفار. وخامسها: أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلامquot;. وإذن فالهدف من إرهاب العدو وتخويفه، بإظهار الاستعداد والقوة، ليس من أجل التغلب عليه في الحرب وحسب، بل أيضاً من أجل حمله على ترك الحرب واللجوء إلى quot;الحلول السلميةquot; بعبارتنا المعاصرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى مباشرة، بعد آية quot;تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْquot;: quot;وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُquot; (الأنفال - 61). فكأن النتيجة من إرهاب العدو بمعنى تخويفه ستكون: جنوحه للسلم، وإذا حصل هذا صار التخلي عن الحرب واجباً.

والشيء نفسه يمكن أن يقال فيمن يرفع شعار quot;المقاومةquot; ضد الاستعمار أو غيره، من دون أن يستحضر في ذهنه أن المقاومة ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لدفع العدو للجنوح للسلم، بمعنى عُدوله عن العدوان أو الاستمرار في ممارسته أياً كان هذا العدوان. إن quot;المقاومةquot; عندما تكون مسلحة تقوم بها نخبة قليلة العدد من المكافحين، نيابة عن الشعب. وهي وسيلة لاستعادة حقوق الشعب، فهي مؤقتة بطبيعتها، أما إذا جعلت من نفسها quot;غايةquot; وquot;وضعيةquot; فإن ذلك إنما يكون على حساب الشعب... والمستفيد الوحيد هو العدو الذي يجد في استمرارها كغاية في ذاتها ذريعة لاستمرار عدوانه.