جواد البولاني

مرة أخرى والشعب العراقي يتطلع لخوض الانتخابات التشريعية في مارس (آذار) القادم، وهي فرصة جديدة تمنحها الآليات الديمقراطية في تأمين الضمانات لحكم الشعب، بمعنى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، ولكي لا يقع المحذور في تبديد هذه الفرصة التي منحها الله للشعب بعد أن تم القضاء على الدكتاتورية في العراق بعمل عسكري قامت به القوات الأميركية وحلفاؤها دون معاونة أحد ممن حسب نفسه مساهما أو متعاونا، إذ لا فضل لأحد غير رعاية الله وعنايته وقوة الفعل العسكري للآلة الأميركية التي كانت بمثابة الطاغوت الذي ضرب العراق وشعبه منتجا حالة من التشتت والدمار والتخريب، لكنه بالمقابل، وهذه حتمية طبيعية لما بعد الدكتاتورية، يوفر للعراقيين فرص التغيير في بناء نظام سياسي جديد يقوم على أساس الحاجات الجماهيرية والتعطش لممارسة العمل السياسي من أجل بناء دولة المؤسسات، في ضوء منهجية تتمتع بالديمقراطية والحرية التي غيبت أو منعت طيلة العقود المنصرمة، وفقا لطبيعة الأنظمة الأحادية والسياسات القمعية التي تنهج فكر الحزب الواحد أو الحزب القائد.

وفي هذه المرحلة كان من الطبيعي أن يحصل فراغ سياسي، الأمر الذي حتم على بروز كيانات وقيادات سياسية بعضها تكوّن داخل العراق والبعض الآخر جاء من خارج العراق، وكلاهما افتقر إلى الرؤية الآنية والبرنامج المستقبلي، لأن كل الأطراف أرادت أن تشارك لا أن تبني، وأن تساهم في تكوين منظومة سياسية في تصورها يمكن أن تكون هي البديل الأفضل لما كان غائبا ومعدوما، مما أدى إلى خلق فوضى وتشظٍّ في العمل السياسي قاد كثيرا من الشخصيات إلى تكوين المئات من الأحزاب غير الفاعلة ودون أي تأثير، بل تحول الكثير منها للمتاجرة وعقد الصفقات من أجل الوصول إلى سدة الحكم بهدف الإثراء وابتزاز المال العام، دون أن يكون لها أي تماس أو صلة بالشعب الذي تأكد منذ البداية أن ثمة خللا كبيرا قد اكتنف المنظومة السياسية وأنها تسير بالاتجاه المعاكس لطموحاته ورغباته، ولم يكن آنذاك قد تكونت أو نضجت أفكار لانطلاق المشاريع الوطنية الحقيقية، إنما كان هناك بعض دعاة هذه المشاريع، إلا أن سعة وتعدد الأحزاب الدينية والإسلامية قد طغى على المشهد السياسي، مما أدى إلى تعطيل المشاريع الوطنية والليبرالية، وهذا الأمر قد ساهم إلى حد ما في خلق أجواء متوترة بين الأحزاب الدينية لكثرتها ودعاة الليبرالية لقلتهم، كونهم قد انحسروا في مساحة ضيقة لم تتوفر لهم الفرصة المطلوبة للمشاركة في العملية السياسية.

كل هذه الإرهاصات التي حصلت نعتبرها طبيعية في ظل الظروف الصعبة والقاسية التي مر بها العراق والعراقيون قبل وبعد دخول القوات الأميركية، ذلك أن الشعب قد عانى الكثير في ظل النظام السابق، كذلك فقد عانى أيضا بعد تغيير النظام، إلا أن الحد الفاصل الذي من بعده قد بدأت تتوضح الرؤية كان مشروع انتخابات عام 2005، لأن الاختبار الحقيقي لممارسة الديمقراطية قد تحقق بالفعل بتلك الانتخابات على الرغم من حصول أخطاء وانتهاكات وربما تزوير، لكننا يجب أن نميز ما بين فعل الانتخاب وممارسة الديمقراطية، فهي في تقديرنا الحدث الأهم في التغيير الذي لم يشهده العراقيون منذ قرون كثيرة، وفي ضوء هذه التطورات فإن المشهد السياسي قد طرأت عليه بعض التغييرات الإيجابية نتيجة الضغوط الجماهيرية والوعي الشعبي الذي بدأ آنذاك بالنمو والتطور ليأخذ مداه في التأثير الإيجابي، مما ولد حراكا سياسيا أدى بالضرورة إلى تنمية وتطوير الوعي السياسي أيضا، بحيث جعله يقترب من الحيز الجماهيري أكثر مما كان عليه سابقا، وعلى الرغم من أن تجربة برلمان عام 2005 قد أحاط بها الكثير من حالات الإخفاق والفشل وعدم تحقيق ما كان يتمناه الشعب أولا، واعتراضنا على الآلية التي جرت بموجبها الانتخابات ثانيا، فإننا نؤشر هنا إلى إيجابية الظاهرة بتأسيس البرلمان باعتبارها حقا شعبيا وقانونا دستوريا ومطلبا جماهيريا.

بعد هذا الاستعراض السريع لطبيعة ظروف المرحلة السابقة أعود لكي أقول إن الفرصة التي أتيحت للعراقيين بالتغيير والتي أشرت لها في بداية هذا المقال، يجب أن لا يبددها السياسي مهما كان موقعه، وأن يعيد النظر في النقاط الخلافية في قانون الانتخابات القادمة وبشكل سريع وعاجل لمعالجة عدد المقاعد لكل محافظة حسب نسب النفوس الطبيعية، وتأمين نسبة معقولة وعلمية دون غبن لأي طرف على حساب الطرف الآخر، خصوصا بالنسبة إلى المهجرين والمهاجرين والنازحين داخل وخارج العراق، وبما يؤمن التكيف القانوني لما نص عليه الدستور وذلك بأن يكون لكل مئة الف عراقي نائب في البرلمان، وأن تجري الدعوة لعقد جلسة طارئة يدعو لها مجلس الرئاسة أو السيد دولة رئيس الوزراء أو السيد رئيس مجلس النواب لمعالجة الموضوع في محاولة جادة لمنع إدخال العراق في فراغ دستوري تكون بموجبه كل السلطات غير شرعية، حيث من الممكن أن يقوم المجتمع الدولي بوضع الوصاية القانونية عليه حسب الوضع القانوني للعراق دوليا باعتباره ما زال تحت طائلة البند السابع.

إن مشروع بناء الدولة الوطنية في العراق ذات الهوية المدنية ومنهجها المهني يتطلب وضع الإصلاحات والتأهيلات اللازم تنفيذها في البنية الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية للدولة والمجتمع، وأن لا تجري عملية البناء بالانفعالية والتشنج والارتجالية، فالجميع شركاء في بناء الدولة، والمنجز هو للجميع، وكل شرائح المجتمع هم أدوات هذا البناء، فإذا نجحنا ننجح جميعا، وإذا فشلنا لا سمح الله فالفشل محسوب على الجميع، ويجب أن نعمل كرجال دولة وليس كرؤساء أحزاب أو ممثلين عن طوائف أو مكونات عرقية أو إثنية، وأن نتصرف كعراقيين مسؤولين عن بناء عراق جديد، عراق يتسع لكل أبنائه.

إن الكراهية والعدائية والطائفية، التهميش والإقصاء، العنف والتطرف، كل ذلك لن ينفع في إحياء من استشهد أو مات بريئا، ولكنها ستتسبب في إزهاق أرواح بريئة أخرى وتخلق ردود فعل عكسية تؤخر تنمية البلد وتزعزع أمنه واستقراره، ولا أحد في هذا العراق يرضى بأن تبنى سعادته واستقراره على حساب معاناة وشقاء وخوف الآخرين، فكلنا عراقيون لنا حقوقنا وعلينا واجبات نؤديها أمام الدستور والقانون.

ثمة أصوات تعلو بين الحين والآخر لأغراض التشهير والتسقيط ولغايات معروفة بالنسبة للعراقيين، فهي تمتاز بمكرها وخبثها وجبنها، وهي في ذات الوقت منهزمة وضعيفة لا تقوى على العمل الصالح وغير مؤهلة للقيادة، تتشكى مرة وتشتكي في الأخرى، أربعة أو خمسة أشخاص أو أكثر بقليل حولوا العراق إلى ساحة مناحة وأنين واضطراب، يتنقلون من استوديو إلى آخر ومن فضائية إلى أخرى وعلى ألسنتهم كلمات لا معنى لها وتفتقر الواقعية والمنهج السياسي الحكيم، ولا تهدف إلى شيء سوى كونها سبيلا لتصدير الأزمات وافتعال الأكاذيب وكيل التهم والأباطيل، فالماضي لا يمكن أن يكون بديلا للحاضر أو المستقبل، والتاريخ لن يعيد نفسه من جديد، وعلى أساس ذلك فإن النظام المباد أصبح جزءا من الماضي وسيبقى دفينا تحت ثقل التاريخ الذي شهد انتهاكاته وقسوته وجبروته على شعب العراق. اليوم هو يوم جديد، هو يوم الوطن والوطنيين، يوم من يحمل راية العراق، يوم المدافعين والمناصرين لحقوق الضعفاء والفقراء والمحرومين، يوم من يوفر اللقمة الكريمة لأبناء شعبه ولا يدعهم يقفون على أبواب منظمات الإغاثة واللجوء، اليوم يوم من يحكم ويعطف ويعفو ويصلح ويعدل الكفة لميزان العدل والإنصاف لشعب تلظى بسياط الاستبداد والاستعباد، اليوم يوم الوئام والاندماج والالتحام بين العراقيين عندما يوفقون في اختيار قادة حكماء ليقودوا برلمانا حكيما يجمع شعب العراق ويعمل على توحيدهم في وحدة تفاعلية من أجل عزة وكرامة الوطن.

علينا أن نستفيد من تجارب الماضي ومعالجة آثارها وأخطائها كما تفعل كل الشعوب الناهضة والمتحررة من أجل تطوير مستقبلنا، وأن لا نسمح لمن يقول إن التاريخ سيعيد نفسه من جديد لأننا ما زلنا في عراق حي ونابض بالعطاء والتجديد، وفيه شعب معطاء يتطلع دائما وأبدا إلى المستقبل، فلا خوف من الماضي، وسنكون سعداء في الحاضر، ومرحبا بالمستقبل. وهذا هو التغيير بعينه.

* وزير الداخلية العراقي