أحمد عبد الملك

لا أعلم لماذا تتسع مساحات الجفوة بين بعض الأنظمة العربية والنخب -التي لها رأي في مجريات الأمور في بلدانها- وتسعى نحو الصالح العام. صحيح أن كل مسيرة لها إيجابياتها وسلبياتها في آن واحد، وأن أداء الجهاز التنفيذي لأية دولة يمكن أن يكون محل اختبار أو تقييم يختلف من شخص لآخر حسب موقعه، وحسب نظرته للاستفادة من النظام أو مدى حياديته واستقلالية فكره، كما أن هنالك من المتمصلحين من بقاء الأنظمة -على أنماطها-وبذلك يستغلون مناصبهم أو مواقعهم الاجتماعية دون وجه حق! وهذا قد يغيظ النخب، لأن ذلك الاستغلال يخالف القوانين التي تضعها الدول. كما أنه يستعدي الناس ضد بعضهم بعضاً، وقد يخلق quot;بؤرquot; توتر وتكالب وكراهية بين الناس، بل بين الناس والأجهزة التنفيذية إن حاد بعض هذه الأجهزة عن السوية. وبذلك تزداد التجاوزات أو الواسطة البغيضة. وهنا ينبغي أن تنشط النخب لتنوير الأنظمة بحتميات مواجهة الأعمال الخارجة على القانون، والتي تتم أحياناً دون رضا الأنظمة.

لقد مرت المنطقة العربية بالعديد من نماذج الاستغلال غير الحميد للمقدرات، واستغل بعض أصحاب النفوذ أماكنهم في ترويج ثقافة (وضع اليد)، وأثرى الكثير من أصحاب النفوذ بهذه الطريقة على مدى ثلاثة أو أربعة عقود.
ومن المواضيع التي قد تغيظ الإصلاحيين أو مؤسسات المجتمع المدني غياب الشفافية وهذا قد يدخل ضمن دائرة الفساد التي تحاربها دول العالم المتحضرة وتعقد لها المؤتمرات والندوات المستمرة. ولئن تحركت النخب ورفعت تلك الممارسات إلى الرأي العام، أو ضمّنتها تقاريرها التي ترسل إلى هيئات ومنظمات دولية، اتُهمت تلك النخب بالمشاكسة.

ومن النماذج أيضاً سوء توزيع العطاءات الخاصة بالمشاريع الضخمة التي قد تصل ميزانياتها إلى مليارات الدولارات، وليس عطاءات الصيانة أو توريد المواد الغذائية لمؤسسة من المؤسسات. وكذلك من النماذج التي لم تعد صالحة للعصر وتحاربها النخب سوء توجيه الإعلام وتقنين حرية الرأي ومحاربة الفكر الانفتاحي. وقد وصل الأمر ببعض الدول إلى quot;تكفيرquot; المفكرين المطالبين بحرية الفكر وتحرره من وتد التاريخ أو النهوج المخالفة لحتمية تطور الحياة.

إن النخب العربية ما انفكت تطالب بالمزيد من الإصلاحات، حتى في أكثر الدول انفتاحاً وحرية! وهنالك من البلدان العربية من يجاهر بالإصلاحات والتقدم وراحة المواطن، لكنك ما إن تطأ أرض تلك البلدان حتى تشعر ببؤس المواطنين وسوء حالاتهم الحياتية والتخوف على مستقبلهم المسروق.

إن حوار النخب مع الأنظمة واجب حتمي وحضاري. وإذا لم تتحدث الأنظمة لمواطنيها، فلن تجدي نقاشاتها مع دور الخبرة الأجنبية -التي نشطت مؤخراً في المنطقة- ولم يثبت مدى نجاح مساعيها وآرائها في التنمية وتحديث المجتمع. ولكأن تلك المؤسسات قد جُلبت لتعزيز واقع الحال، وبذلك تستمرئ تلك المؤسسات quot;اللعبةquot; للبقاء أكثر فترة ممكنة، اعتماداً على quot;افتتانquot; بعض الأنظمة باسمها وquot;ماركتهاquot; في السوق كونها تأتي من بلدان الرجل quot;الأشقرquot;. وتصرف لها الملايين! أما آراء المواطن فقد لا تجد لها آذاناً صاغية.

نحن -في منطقة الخليج- بحاجة إلى مراجعة نتائج أعمال بيوت الخبرة التي جلبناها منذ أكثر من عشرة أعوام! وماذا عملت في المجال التعليمي والاقتصادي والاجتماعي؟! بل وفي تطوير البنى التحتية لبلدان الخليج.

إننا ندرك أن الطبقة الوسطى في الخليج تكاد تكون معدومة -مثلها مثل الدول العربية الأخرى- حيث إن الفقراء قد ازدادوا فقراً، حتى مع طفرات النفط الملحوظة التي لم يستفد منها بعض المواطنين، كما أن الأغنياء ازدادوا غنى في ظل الأوضاع السائدة، والتي تحتاج إلى نقاش طويل. بل إن سوق العمل -حسب مقترحات ومشاريع بيوت الخبرة الأجنبية- سيكون مفتوحاً أمام أبناء الميسورين -الذين يستطيعون دفع ما بين 70-100 ألف ريال في الشهر عن رسوم الفصل الدراسي لأبنائهم- بينما يخرج خريجو التعليم المجاني من المعادلة، نظراً لحالة السوق، والحاجة إلى تطوير هذا التعليم. وهذا يزيد من اتساع الفجوة بين أبناء المجتمع الواحد.

إن دعوات النخب لإنشاء مؤسسات المجتمع المدني وسماع أصواتها في كل تخصص لابد وأن تُقابل بعين الرضا، فهذه (النخب) هي من المواطنين الذين لهم حقوق مثل الآخرين. وإن كانوا بعيدين عن مراكز القرار.

إن الديمقراطية تشكل النظام الأعدل لجميع الشعوب. ولولاها لما قامت النهضة في أوروبا وأميركا، ولما تطورت اليابان بعد ضربها بالقنبلة الذرية. ولما ازدادت إنتاجية الشعوب، لأن المناخ الديمقراطي يشعر فيه الكل بأنهم يأخذون حقهم غير منقوص، وأن للشعوب ممثلين في البرلمانات والمجالس المحلية يتحدثون باسمها، ويرفعون أي ضيم قد يقع عليها للحكومة.

لكن دول الخليج الحديثة في مسألة الديمقراطية، يتخذ البعض فيها تلك الديمقراطية مطية لمحاربة النظام أو زعزعته أيضاً! وهذا لا يجوز. كما يغض بعض آخر الطرف عن المطالبات الديمقراطية.

إن التوافق وسعة الصدر مطلبان أساسيان لمستقبل المنطقة العربية. وبدونهما ستشهد هذه المنطقة المزيد من الاحتقانات، وخصوصاً أن هنالك بؤراً جاهزة للانطلاق المحلي أو الخارجي. ومتى تم ذلك -مهما كان نوعه- فلسوف يشل يد بعض الأنظمة عن مواجهة ما قد يحدث، وسوف يستعد الخبراء quot;الشقرquot; لمغادرة المنطقة عبر سفاراتهم.

لذلك فإن سعة التوافق وسعة الصدر تعتبران أمرين أساسيين للوصول إلى تفاهم أوثق بين الأنظمة والنخب، من أجل تأمين مستقبل المنطقة العربية والنأي بها عن إشكاليات المواجهات الإجرامية التي تنشط مع الأيام، ومن أجل بقاء الثروة بيد أبنائها، ولينعم بها الكل.