باقر النجار

شكلت الطائفية إحدى أكثر المشكلات/ الأزمات تفجرا في المشرق العربي، خلال العقود الثلاثة الماضية. بل إن المشكلة قد ازدادت حدتها مع سقوط النظام العراقي وصعود المعارضة الاسلاموية لمقاعد السلطة في العراق.
وبداية صراع دموي فيها على مركب القوة بين الفصائل السياسية المختلفة، تحت يافطات دينية أخذت بعدا مذهبيا وحربا طائفية، استحضرت فيها هذه الجماعات كل حكايات التاريخ البعيد وأحداثه، كما وظفت عصبويات الطائفة بكل حرفية وإتقان.

وهو الأمر الذي قاد إلى انتهاء الدولة وإلى فوضى سياسية وأمنية واجتماعية لا يبدو في الأفق أن هناك حلا حاسما لها، إلا بانتهاء أو ضعف القوى السياسية التي فجرت هذا المشكل.

وهي مشكلة عكست إخفاقات المجتمع العربي، ليس فحسب عن تحقيق حلمه في النهوض الاقتصادي، بل عجزه كذلك في بناء الدولة الحديثة التي يمكن أن تنهض بالمجتمع. وهي مشكلة باتت تشمل جل أقطار المشرق العربي، بما فيه مصر والسودان، وفي أقطار إسلامية أخرى كإيران وباكستان وأفغانستان. وهو صراع يعبر عن نفسه تارة في صراع إسلامي ـ مسيحي وفي آخر إسلامي ـ قبطي، وفي صراع شيعي ـ سني... الخ.

وهي صراعات رفعت شعار الدين عاليا، وتوارت تحت ذلك مراميها السياسية ونزوع هذه الجماعات إلى الاستحواذ على القوة والسلطة والمنافع الاقتصادية والاجتماعية، لحصرها في الجماعة وفي خاصة الجماعة.

وهذا الصراع بات يقترب كثيرا من منطقة الخليج، حيث حذرت منه شخصيات في أعلى المواقع الرسمية، كما حذر منه أحد التقارير الرسمية الصادرة عن مركز البحرين للدراسات والبحوث.

ويعبر مفهوم laquo;الطائفيةraquo; في المجتمع العربي عن كل الصراعات بين جماعات المجتمع الواحد التي تأخذ بعدا دينيا محددا، سواء أكان بين المسلمين والمسيحيين كما في الحالة المصرية والعراقية واللبنانية، أو بين مذاهب مختلفة داخل الديانة الواحدة، كصراع السنة والشيعة كما هو في الحالة العراقية واللبنانية.

وهي صراعات تبدو مستترة أحيانا، إلا أنها تعبر عن نفسها في مجال الصراع على المنافع الاقتصادية والاجتماعية، أو في مجال الصراع على الفضاء العام، والذي يأتي الصراع عليه من خلال مؤشرات عدة تعبر عن صراع مستتر للقوة وفي تأكيد الحضور أو طغيان الحضور. وقد يكون الصراع مستعرا ودمويا، كما في الحالة العراقية والباكستانية. وهي صراعات قد تأخذ طابع الدين في إطاره العام كدين، أو في إطاره الفرعي المذهبي كفرقة إسلامية أو فكرية.

أي أن الصراعات الطائفية هي صراعات دينية في الظاهر، إلا أنها تعبر في الكثير من أبعادها عن صراع بين جماعات المجتمع الواحد المختلفة على مركب القوة في المجتمع. هذا المركب الذي قد يعني في بعضه تحديد حجم الانتفاع والاستمتاع بالمنافع والمزايا والعطايا، وقد يكون صراعا على السلطة في إطارها العام أو المحدد.

وهي كلها صراعات قد تعبر في بعضها عن الفشل في إقامة الدولة الحديثة، أو في ضعفها أمام تنامي قوة التضامنيات الطائفية والقبلية على حساب الدولة. وهو في هذا صراع تتشارك فيه جماعات وأفراد من الداخل الدولة وخارجها، تُوظف فيه الدولة والجماعة لخدمة مصالحها الفردية بل المغرقة في الفردية.

ومن المهم القول إن انتماء الفرد، أي فرد، لطائفة ما لا يجعل منه فردا طائفيا، كما أن سعيه نحو تحسين أوضاع الجماعة التي ينتمي إليها في إطار الوسائل الشرعية دون الإضرار بحقوق الجماعات الأخرى، لا يجعل منه كذلك فردا طائفيا.

إنما الطائفية والطائفي هو سعي الفرد أو الجماعة لأن يحصر مسألة التمتع بالحقوق والمزايا في إطار جماعته دون الآخرين، أو أن يُكسب جماعته الدينية أو المذهبية حقوقا للآخرين تحيزا ضدهم أو بخسا لحقوقهم. وهنا فإن الصراع يتحول إلى شكل من أشكال الصراع الطائفي على القوة ومنافعها، التي توظف فيها مقولات تكفير الآخر وإخراجه من المِلّة، وبالتالي إحلال دمه وممتلكاته!

إن ما يفسر ظاهرة قدرة التضامنيات التقليدية: كالطائفية والقبلية على الاستمرار في المجتمع الحديث، هو غياب ما قد نسميه بالكتلة الوطنية المتجاوزة في معالجتها للمشكل المحلي كل حساسيات وانجذابات التعاضديات التقليدية، كما هو في قدرتها، أي الكتلة الوطنية، على أن تضع المشكل المحلي في السياق المجتمعي العام.

وليس في الأطر العصبوية والجزئية التفكيكيةوإذا كان المجتمع الأهلي والمدني مدعوين للتصدي لظاهرة تنامي مشكل الصراع الطائفي بين التجمعات الاجتماعية المختلفة المذهبية والقبلية، فإن هذا التصدي لا يكسب قوته إلا من خلال مشروع وطني عام تتبناه الدولة وتشرع في تنفيذه، وهو مشروع ستواجهه القوى المستفيدة من استمرارية حالة الصراع الداخلي بكل قوة واستماتة.