دبي الحربي

لا أدري كلما جاء الحديث عن اليمن تذكرت عبدالله البردوني شاعر اليمن الراحل، وقصيدته الشهيرة:
فـظـيع جهـل ما يجـري
وأفظع منه أن تدري
جنوبيون في صنعاء
شماليون في عدن
يـمانيون في المنفى
ومنفيون في اليمن
فـمـن مستعـمـر غازي
إلى مستعمر وطني
قد لا يستقيم التحليل السياسي مع منطق الأدب والشعر، ولكن الشعر كان أحد دواوين السياسة في التاريخ العربي، وحال اليمن لا تختلف عن أحوال الكثير من الأوطان العربية، ووحدة اليمن لم تكن أمنية أو حلما يداعب مخيلة البردوني وحده بل هدف سام تغنى به اليمنيون جميعا ومعظم العرب طوال عقود منذ مطلع الستينيات حتى تحققت العام 1990 م. والحماس لها جعل وحدة اليمن تسبق وحدة الألمانيتين الشرقية والغربية.
كانت الوحدة هي المرشح الأول لأن تكون أبرز ضحايا الصراع أو الخلاف الذي نشب بين قطبيها (الزعيم الجنوبي علي سالم البيض، والشمالي علي صالح)، بعد عامين من إتمامها، إلا أن الحرص عليها كان في الوقت نفسه أبرز عوامل الحسم في الحرب الأهلية التي دارت رحاها العام 1994، على الرغم من التدخلات الاقليمية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وإذا كانت وحدة اليمن تدين في جانب من جوانبها إلى التحولات التي قادها الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف على مستوى العالم، فإن دعاوى ومؤامرات التشطير مازالت تتنامى وهي في مجملها نتاج لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية أبرزها:-
1 - غزو العراق للكويت وموقف النظام اليمني السلبي من إدانة هذا الاعتداء الغاشم، مما أدى بدول الخليج العربية إلى أن تتوجس خيفة من هذه الوحدة، فالذي بقي مؤيداً للوحدة من دول الخليج لم يتحمس لدعم اليمن الموحد، وتركه يواجه مصيره.
2 - انهيار الاتحاد السوفييتي المفاجئ العام 1991، جعل اليمن مكشوفاً أمام العالم الخارجي، وهذا الانكشاف دفع الولايات المتحدة الاميركية لمغازلة النظام الحاكم في الشمال وأن تسنده ضد مطالب التحديث وبناء مؤسسات الدولة التي يطالب بها أهل الجنوب ومثقفو الشمال، وهدف واشنطن أن يكون اليمن مدخلها للسيطرة على كامل اليمن ذي الموقع الاستراتيجي.
3 - ثالث هذه العوامل يتعلق بالأوضاع الداخلية في اليمن ولاسيما في شطره الشمالي وصراع التحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث وإذا كان الحزب الاشتراكي الذي تقاسم السلطة مع حزب المؤتمر الشعبي قد لقي تأييدا من الشرائح المتعلمة والواعية في الشمال، فإن الأخير أي حزب الرئيس علي عبدالله صالح، والقوى والكيانات التقليدية المتحالفة معه رأت أنها تفقد الفعل السياسي لصالح القوى المستنيرة ودولة المؤسسات، فأعادت رص صفوفها، يضاف إلى ذلك وجود جيشين، جيش عقائدي في الجنوب، وجيش ذي طابع قبلي في الشمال،، فتصادمت مطالب إبعاد الجيش عن الحزبية بمطالب إلغاء الهيمنة القبلية والعشائرية والعائلية على الجيش، وكذلك على أجهزة الأمن والاستخبارات.
هكذا تم حسم الصراع في النهاية لتحالف حزب المؤتمر الشعبي مع القوى الأصولية بشقيها القبلي والديني وبمباركة اميركية، تزامن ذلك كله مع انهيار النظام السياسي الهش في الصومال، وهيمنة طالبان على الفعل السياسي والعسكري في أفغانستان وسيطرة القوى الأصولية على السودان، والحرب الأهلية في الجزائر.. الخ.
وعي أميركي متاخر
الولايات المتحدة الأميركية لم تدرك مخاطر استمرار تحالفها مع القوى الأصولية بل كانت تراهن على أن تكون مدخلها إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، للحد من أي نفوذ روسي مستقبلي، ولم تتغير نظرة واشنطن لمخاطر تغذيتها للأصولية الإسلامية حتى بعد أن قلب لها بن لادن ظهر المجن وتبنى حادثي تفجير السفارتين الاميركيتين في كينيا وتنزانيا في 7 / 8 / 1998م .
وجاءت أحداث 11/9/2001، لتضع نهاية لهذا التحالف، ولكن في ظل تسلط اليمين الاميركي على البيت الأبيض فجاءت ردة الفعل طائشة غير محسوبة العواقب، واختلطت فيها الشعارات اللاهوتية بأطروحات اللبرنة والديمقراطية، وظهرت اطروحات إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط laquo;والفوضى الخلاقةraquo; ولم تول ادارة بوش الابن الفوضى العارمة في الصومال أية أهمية تذكر، ويبدو ما يجري في اليمن الآن أنه نتاج لسياسة المحافظين الجدد التي حكمت السنوات الثماني الأولى من القرن الـ 21. وهدفت إلى تفكيك الكيانات السياسية في المنطقة والشرق الاوسط. الآن ومع عودة الوعي للبيت الأبيض الأميركي واستشعار دول المنطقة ولاسيما الخليجية منها لمخاطر تحول اليمن إلى صومال آخر، وإن كان أمراً ضعيف الاحتمال، فإن الأمور في اليمن مهما كانت قساوتها لن تخرج عن السيطرة، فالعامل الدولي حريص على عدم تكرار أخطاء رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في تحالفه مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، والرئيس الاميركي الجديد باراك اوباما حريص على إعادة التوازن والهدوء إلى المنطقة، في ظل انهيارات اقتصادية وخسائر مالية هائلة في الداخل الأوروبي والأميركي والتكلفة العالية للخروج من مأزق الماضي.
دعوة براون
المؤتمر الدولي الذي دعا له رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون في 28 يناير الجاري قد يكون مفيدا laquo;اذا حسنت النواياraquo; لا لمناقشة كيفية مواجهة التطرف في اليمن وحسب، بل ايضا لإخراج اليمن من مخاطر التشظي بعد أن تجاوزت الأطروحات إعادة تشطير اليمن إلى جنوب وشمال، بل إلى كيانات قبلية وعشائرية وأمراء حرب من القوى الأصولية.
إن دعوة براون رغم التحفظ عليها، واعتمادها حتى الآن على المساعدات العسكرية والأمنية، فانها بتدخل عربي فاعل ولاسيما من دول الخليج ممكن أن تساعد اليمن لإعادة توازنه، فالمساعدات العسكرية والأمنية لن تفيد اليمن ما لم تترافق مع مساعدات اقتصادية وتنموية مجدية، يتلمس فوائدها وجدواها المواطن اليمني البسيط في الجنوب والشمال والوسط. فترك زمام الأمور وتسليم كل الأوراق لواشنطن ولندن لم تحصد منه المنطقة والعرب إلا الويلات.
وما يبعث على التفاؤل في هذا الاتجاه هو التحرك العربي الراهن الذي يحاول من خلاله العرب مجتمعين الإمساك ببعض خيوط النسيج القادم للمنطقة في ظل تبلور نظام عالمي جديد متعدد القطبية.