فاطمة شعبان

قبل خمس سنوات نصح بيل غيتس مؤسس عملاق البرمجيات مايكروسوفت في مقابلة مع صحيفة laquo;لوفيغاروraquo; الفرنسية الصحف بالاهتمام بمواقعها الإلكترونية إذا أرادت الحفاظ على قرائها، معتبراً، أن laquo;نوعية الموقع الإلكتروني باتت أساسية للمؤسسات الصحفيةraquo;. فهو يعتقد أنه laquo;خلال خمس سنوات سيقرأ 40 إلى 50 % من الناس الصحف على الإنترنتraquo;. واعترف غيتس في المقابلة أن laquo;أكثر من نصف قراءاتهraquo; وفي مقدمها laquo;وول ستريت جورنالraquo; وlaquo;نيويورك تايمزraquo; وlaquo;ذي ايكونومستraquo; تتم عبر الإنترنت، كما أنه يقرأ جميع الصحف المتعلقة بمجال المعلوماتية على الإنترنت.
تعاني الصحف الكبرى من مشكلات تراجع التوزيع في العالم منذ سنوات، وهو موضع جرى نقاشه كثيراً، سواء في الصحف نفسها، أو من قبل المتخصصين في الإعلام. وهناك الكثير من التقديرات حول توجه العالم خلال السنوات القادمة، ليس إلى انخفاض قراء الصحف الورقية، كما تنبأ غيتس، بل إلى اختفاء كامل للصحيفة الورقية التي نعرفها اليوم من العالم. وهناك الكثيرون الذين يحاولون تجنب هذا المصير، كما هناك العديد من المشروعات البحثية التي تعمل على بدائل عن الصحافة الورقية، لأن العالم يذهب في السنوات القادمة في هذا الاتجاه، حسب تقديرات أغلبية العاملين في مجال التقنيات، وفي مجال الصحافة.
وفي هذا الإطار تعمل الشركات التقنية على مشاريع laquo;توزيع صحف بلا ورقraquo;. وهناك اليوم الكثير من شاشات وبرامج العرض التي تسعى أن تحل محل الصحف اليومية، وهي تحصد المزيد من النجاح يوماً بعد يوم.
ولا شك أن مشاريع صحافة بلا أوراق، كانت الريادة فيها من قبل الصحف ذاتها عبر المواقع الإلكترونية، حيث بات لكل صحيفة موقعها، بصرف النظر عن مكانة الصحيفة، وبات الوصول إلى أي صحيفة يحتاج على ضغطة صغيرة على فأرة جهاز الكمبيوتر. وهذا ما أحدث ويحدث ثورة هائلة في مفاهيم ومعايير العمل الصحفي، حيث باتت مواقع مثل فيس بوك وتويتر وغيرها مصدراً مهماً للأخبار رغم أن هذا ليس دورها الرئيسي. وقد تجاوز الإنترنت مرحلة الضغوط على الصحف إلى مرحلة بات من الضروري على الصحف ذاتها أن تتلاءم مع التحولات الهائلة التي حصلت في السنوات الأخيرة في عالم التقنيات والاتصالات. من المعروف أن مصاريف كبيرة كانت وما زالت تتكبدها الصحف الكبرى عبر نسخها الورقية، وهي مصروفات بات من الممكن تجنبها، حيث يمكن أن تكون هذه التوفيرات هائلة، إذا عرفنا أن صحفاً كبرى، مثل laquo;نيويورك تايمزraquo;، أو laquo;وول ستريت جورنالraquo;، كانت تستهلك نحو 200 ألف طن من الورق سنوياً واليوم سعر طن الورق في ازدياد، وإذا تمت إضافة أسعار الطبع والشحن إلى أسعار الورق، فيمكننا أن نتصور أي مبلغ من المال يمكن توفيره باختراع تقنية تجعل الصحافة تستغني عن الورق والشحن، وتستخدم وسائل النقل الإلكترونية لإيصال صحفها إلى القراء. ولا شك أن الأزمة التي تعاني منها الصحف ليست وليدة اليوم، بل هي تعاني منها منذ سنوات، وباتت أغلب الصحف الكبرى خاسرة، ما جعل صحيفة مثل laquo;نيويورك تايمزraquo; تعرض مركزها الرئيسي في نيويورك للبيع، وجعل صحيفة مثل laquo;واشطن بوستraquo; تسرح 40 % من العاملين فيها. ووصلت هذه الأزمة إلى الصحافة العربية، عندما سرحت صحيفة النهار اللبنانية وهي من أعرق الصحف العربية وأقدمها 40 صحفياً ومحرراً منهم أسماء كبيرة مثل رئيس تحرير ملحقها الثقافي إلياس خوري.
وهناك تحد آخر تفرضه شبكة الإنترنت على الصحافة الورقية وعلى مواقعها الإلكترونية، وهو ازدياد عدد الناس الذين يودون الحلول محل الصحفيين والصحف من خلال مواقعهم الإلكترونية، ومواقع البلوغات Blog أكثر من أن تحصى. ويبدو أن هناك رغبة عند أعداد لا تحصى من البشر في مشاركة الآخرين معلوماتهم الشخصية التي حصلوا عليها بشكل أو بآخر، والشبكة أفضل وسيلة لإخبار ومشاركة الآخرين هذه المعلومات.
إن وصول المعلومات مباشرة من المصدر إلى المستلم، يطرح السؤال عن فائدة الصحافة ورقية وغير ورقية. في ظل هذه التغيرات الكبيرة يصبح سؤالاً مشروعاً ويفرض تحدياً على الصحافة ذاتها بتكريس وتأكيد مواقعها من جديد، فلا يمكن للصحافة أن تكون عملاً فردياً في نهاية المطاف، سواء كانت صحافة ورقية أم صحافة إلكترونية. فرغم ما يبذله الصحفيون من جهود لجمع الأخبار وتفسيرها وتصحيحها، والمخاطرة في الكثير من الحالات للوصول إليها ولكن هناك ميلا عاما يزداد دوماً لاعتبار المعلومات سلعة مجانية في متناول الجميع، وهو ما يستنتج البعض منه أنه بإمكان الجميع أن يصبحوا صحفيين، وتضع التطورات التقنية الإمكانات في متناول الجميع وتعطيهم القدرة على جمع وقائع وصور وآراء، وتعطيهم الإمكانية لنشرها على نطاق واسع، وإعادة نشر ما يعجب أحدهم بعد أن ينقله عن مواقع أخرى أو يقرصنه، وأي مقال ينشر في صحيفة، تجد أنه سرعان ما يتم نسخه في العديد من المواقع الإلكترونية (ابحث / ابحثي عن هذا المقال غدا عبر جوجل، ستجده في عدد من المواقع التي لم تأخذ إذن أحد في إعادة نشره، لا الصحيفة التي نشر فيها، ولا الكاتبة التي كتبته). وبذلك يصبح من حق الجميع السطو على الجهد المبذول وعلى الحقوق التي يفترض أنها تخص هذه الصحيفة. قد نفرح أن نجد مقالاتنا يعاد نشرها في هذا الموقع أو ذاك، ولكن لأن ذلك يكون دون إذن فإنه انتهاك لحقوق الآخرين مهما كان مبرر إعادة النشر. وبذلك من الممكن صناعة صحيفة من خلال الاستيلاء على منشورات الآخرين، وبهذه الطريقة يستطيع الفرد أن ينشر في موقعه ما شاء نقلاً عن الصحف والمواقع الأخرى، وهو بذلك يستولي على جهود ليست من حقه. صحيح أن كل تقنية إعلامية جديدة هددت الصحافة المكتوبة، وكان مقدرا لها أن تختفي بعد اختراعها، وقد بدأ ذلك مع اختراع الراديو وزاد المستقبل تشاؤماً مع التلفزيون، وتحول اليوم مع الإنترنت والبث الفضائي، وإمكانية الاندماج بينهما إلى خطر داهم على الصحافة المكتوبة. كل مرة استطاعت الصحافة المكتوبة أن تجدد نفسها، وأن تؤكد رسوخها واستمرار وظيفتها بشكل أقوى. واليوم التحدي مختلف، رغم أن الصورة السابقة ما زالت صورة تخيلية، ولكن اتجاهاتها ثابتة. فهل تفاجئنا الصحافة المكتوبة، وتبقى حية رغم كل التنبؤات المتشائمة، أنا شخصياً أتمنى ذلك، لأني أحب الصحافة الورقية، ولكن مشاعري وحدها غير قادرة على حماية الصحافة الورقية.