عبد العزيز السماري

دائما ما أجد صعوبة في إدراك مغزى تحرير رأس المال من التزاماته أو من مسؤولياته الوطنية تجاه المجتمع، وقد يكون السبب له علاقة ببدايات الاقتصاد الرأسمالي، لكنني عندما أطلع على تجارب دول أوروبا الغربية، وما تصدره من قوانين لحماية مواطنيها ضد ذكاء ونفوذ رأس المال أعود مرة أخرى لرفع علامات الاستفهام أمام مفهوم الحرية الاقتصادية المزعومة لدينا، فرأس المال الجبان يعشق الحرية الاقتصادية غير المقيدة، يمرر مصالحه من خلال تأثيره على أصحاب القرار، وفي ظل غياب قانون يحد من عنفوانه يصبح مع مرور الوقت كائناً متوحشاً وطليقاً في حركته و قراراته، ولا يكترث بالتزاماته الوطنية..

ربما لم نصل بعد إلى تحديد توحش نفوذ الرأسمالية، لكن من الخطأ أن يحكم واقعنا المحلي بعض الأقوال المتداولة التي تجعل من رأس المال طليقاً ومتحرراً من القيود الوطنية، وتغض النظر عمًا سيخلفه من آثار اجتماعية باهظة، إذا قرر يوماً ما الرحيل خارج حدود الوطن، برغم من أنه وليد الاقتصاد الوطني، ووصل إلى الأرقام الصعبة في ظل نمو الاقتصادي المحلي وازدهاره، وتحوله إلى امبراطورية إعلامية في ظل الحماية الوطنية..

لذلك مازلت أحاول أفهم كيف استطاعت بين ليلة وضحاها إمبراطورية (أي أرتي)الإعلامية اتخاذ قرار إنهاء علاقاتها بالوطن وبمصالح مواطنيه العاملين لديها، بعد أن ضربت بمصالح العاملين فيها بعرض الحائط، والذين كانوا أحد أهم أسباب نجاحها في سوق الرياضة، فلم تكترث بما سيخلفه قرارها الأحادي الجانب من تأثيرات اجتماعية واقتصادية على أولئك الذين منحوها ثقتهم ومستقبل حياتهم وأبناءهم، هذا إذا أدركنا أن البيعة كانت بأغلى الأثمان، ولم يكن القرار نتيجة حالة إفلاس من أجل تبرير تسريح موظفيها قانونياً..!، عندها علمت أن رأس المال له استثناء خاص في صفحة الواجبات الوطنية، فقد يبيع رجل الأعمال مصالحه إلى الخارج بأغلى الأثمان، ثم يُسرح العاملين لديه بدون حقوق، وهو من بنى إمبراطوريته في ظل الاستثناءات ..

نكاد نقرأ بصفة يومية عن تلك التسهيلات التي تُمنح لإغراء الشركات الأجنبية للاستثمار على أرض بلادنا العزيزة، وكما فهمت من تشريعاتها تأتي مصلحة رفع فرص العمل للمواطنين في مقدمة الأهداف المعلنة، وأيضاً من أجل رفع معدلات نمو الاقتصاد الوطني!، لكن ما حدث من اختفاء مدهش لإمبراطورية إعلامية يرفع أكثر من علامة استفهام عن حقيقة مواطنة رؤوس الأموال، وفيه رسالة مبطنة لأبناء الوطن، مضمونها أن يحذروا من الالتحاق ببعض الشركات الخاصة، فقد يستيقظون يوماً ولا يجدون أثراً لشركتهم الأجنبية أو الخاصة في سوق العمل..

من خلال هذا الحدث أدركت سبب حرص بعض المواطنين على الحصول على عمل في مؤسسة حكومية وإن كان أقل دخلاً، فالأمن الوظيفي هو ما يميز العمل في المؤسسات الحكومية..، بينما يفتقد العمل في المؤسسات الخاصة إلى ذلك، وما حدث مؤخراً سيعزز من هذا الشعور، ويؤثر سلباً على اتجاه العمالة الوطنية إلى القطاع الخاص..، ولن تتوقف ردة الفعل عند موقف السلبية فقط، والهروب إلى العمل في الأجهزة الحكومية، فالقطاع الحكومي لن يستطيع استيعاب العمالة الوطنية، وقد يؤدي ازدياد نسب البطالة إلى خروج ثقافة العمل والعمال إلى السطح، وهو يعني دخولنا إلى صراعات التاريخ الحديث من أحد أهم أبوابه الرئيسية..

هل نعي تجربة التاريخ الحديث ونستفيد منها ؟، و نستورد القوانين المقيدة لحرية الاقتصاد من الدول المتقدمة، والتي خاضت تجارب مريرة بسبب تلك العلاقة غير المتوازنة بين رؤوس الأموال ومصالح المواطنين وحقوقهم الشرعية في العمل على أرض بلادهم.......، الأذكياء هم فقط من يستطيع تجاوز أخطاء حضارة الإنسان في الحاضر والماضي..