أحمد البغدادي

الحل الوحيد لتطور الحريات الفكرية يكمن في الفصل بين رجل الدين والشأن العام
في الوقت الذي يبحث فيه العالم الغربي قضية حرية الضمير, لا يزال العالم العربي يحبو في قضية حرية التعبير. وأتذكر أثناء دراستي في الغرب تعليقا لأحد الطلبة حين كنت أناقشه في هذه القضية, أن نظر إلي متعجبا قائلا: هل لديكم كهرباء وماء? قلت له : نعم! فقال: لماذا تعتبر حرية التعبير شيئا غريبا? عرفت يومها البون الشاسع بيننا وبين الغرب في مفهوم الحريات. منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي حين بدأت دراستي في الولايات المتحدة وحرية التعبير آخذة في التقلص والتناقص في العالم العربي! والسؤال: لماذا لم تتطور حرية التعبير والحريات الفكرية عموما في عالمنا العربي? وكلنا يرى ما حدث في الكويت تجاه زيارة المفكر المصري أ.د. نصر حامد أبو زيد, حيث تم منعه من دخول الكويت برغم حصوله على quot;فيزاquot; قانونية, نتيجة الضغط الذي مارسه النواب الإسلاميون على رئيس الحكومة. لقد استنكرت المنظمات الدولية هذا الحدث المنافي لحق حرية التعبير, وساءت سمعة الكويت على الساحة الدولية, مما يجعلنا نضع هيمنة الفكر الديني السبب الرئيس لتدهور وضع الحريات الفكرية في العالم العربي.
الفكر الديني ضد حرية التعبير, بدليل عدم وجود كتاب فقهي واحد في هذا الموضوع. ومن نافلة القول أن الصراع بين الفكر العلماني والفكر الديني قاده رجال الدين ضد المفكرين. وبسبب قوة هيمنة الكنيسة لم يتمكن العقل العلماني من النفاذ الى داخل المجتمع إلا بعد القضاء على دور الكنيسة بالفصل بينها وبين الحياة العامة ليكون الدين شأنا خاصا بين الخالق والمخلوق, أما الحياة العامة فتدار وفقا لمقتضيات العقل الإنساني. وبالتحرر من هيمنة الكنيسة أصبحت الحريات الفكرية شأنا فرديا, ثم تحولت مع تطور الفكر السياسي والاجتماعي لتصبح من منظومة حقوق الإنسان.
في العالم العربي المسلم يستحيل الفصل بين الدين والحياة العامة لأسباب تتعلق بالدين ذاته, لذلك لا بد من الفصل بين رجل الدين والحياة العامة, بمعنى أن لا يكون للفتوى دور في التشريع, كما يجب إبعاد رجل الدين عن رجل السياسة, حيث تكون المرجعية في التشريع للدستور والقانون, وليس للفتوى الدينية. كما يمنع منعا باتا تدخل رجل الدين في القضايا العامة, ويمنع على نواب البرلمان ووزراء الحكومة الاسترشاد برأي رجل الدين من خلال نص دستوري. وبذلك يقتصر دور رجل الدين على الشأن الخاص فيما لو أراد المسلم رأيا دينيا يتعلق بحياته الخاصة, لكن لا يدخل رأيه في الشأن العام. بل يمنع عليه وفقا للقانون التدخل في الشأن العام.
بذلك تتحرر الحريات الفكرية, بل وحتى حقوق الإنسان من العنصر الديني, ومن ثم لا يحق للمشرع تنظيم هذه الحريات إلا في ما يتعلق بالسب والقذف. لكن إبداء الرأي الشخصي في مختلف القضايا العامة بما فيها القضايا الدينية ليست عرضة للمساءلة القانونية, وبالتالي تسقط قضايا الحسبة والتكفير وكل العقوبات الدينية القديمة التي عفى عليها الزمن وما عادت تصلح لعصر العولمة.
الحل الوحيد لكي تتطور الحريات الفكرية وخصوصا حرية التعبير يكمن في الفصل بين رجل الدين والشأن العام, من دون أن يعني ذلك نبذ رجل الدين من الحياة, بل تحديد العلاقة بينه وبين الشأن العام, وجعله مقصورا على الشأن الشخصي لمن يريد فتوى ما في موضوع يخصه. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بنص دستوري أو قانون عام. وفي هذه الحالة لن يقتصر الأمر على الحريات الفكرية, بل يمتد أثر ذلك إلى مجمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. جميع الدول تتطور فيها الحريات باستثناء العالم العربي.