محمود حيدر

لا تظهر صورة المثقف اللاطائفي في لبنان خارج سيرة الطائفية. فإنه وإن شاء أن يغادر أسوارها المغلقة، لا يلبث أن يعود إلى مستهل المسعى ليبدو كمن يمضي في المستحيل. المثقف على هذه الصورة مطوق بجدران لا حصر لها. بعضها مرئي، وينتصب أمامه في كل شأن يتعلق بحياته اليومية تعلقاً مباشراً، وبعضها مستتر وخفي، أو يجري إخفاؤه بحساب معدّ بإتقان من جانب من يصنعون للطائفية سيرتها ومجدها وعمرها المديد.
وهو إذا حاول الخروج على طائفته لا يجد من يراه في الخارج إلا كغريب. ولئن َملَكَ الجرأة، وخرج على طائفته فلن يجد من يقبله في مسارح الطوائف المتآخية، إلا بوصفه منتبذاً. ولسوف يسكنه شعور ثقيل بأن لا مناص له من الرجوع إلى مسكنه الأصلي. وأنه لن يتسنى له العيش كمواطن في وطن سويٍّ، لأن الطوائف السياسية التي استوطنت جغرافيات البلاد منذ زمن بعيد تجدد نفسها، بعقود مقدّسة، إثر كل حرب ضروس، أو فتنة عابرة.
ومن سوء حظ المثقف اللاطائفي، أن المساحات التي كان يفترض أن تُخلى له كمكان حرّ للكلام والتفكّر باستراتيجية، قد غلِّقت بإحكام منذ تسوية laquo;الطائفraquo; العام 1989.
وبعد هذا التاريخ بدا كما لو أن دولة الطوائف أكملت نفسها، واستراحت مما حملته صيغة laquo;الجمهورية الأولىraquo; من متاعب ومعايب كانت سبباً في نشوء بيئات سياسية وثقافية ذات استقلال نسبي عنها..
وحين اكتملت دولة الطوائف على النحو الذي نرى مشاهده التراجيدية منذ نحو عشرين عاماً، وجد مثقفو لبنان اللاطائفيون، على العموم، أنهم باتوا أسرى علاقات قوة وجذب بنبذٍ من طراز جديد. باتوا معلّقين بدوائر مغلقة، ومتّصلة في ما بينها بعقود فادحة من الرياء السياسي. وخاضعة بالتالي لكيمياء عجيبة لم يشأ كثيرون منهم أن يكونوا مادة لاختباراتها المروّعة. إلا أنهم أحبطوا في اجتياز أسوارها. ولم يقدروا على الصمود في وجهها. فوراء كل جدار جرى نصبه بعد الحرب الأهلية، نشأت سلطة ماكرة وخادعة ومتحللة من أي وازع قانوني، أو أخلاقي. سلطة ازدادت حنكة بما ورثته عمّن سبقها من بيوتات القوة والعنف خلال الحرب، وكذلك من ميراث laquo;الجمهورية الأولىraquo; التي لم يتحصّل للبنانيين من laquo;عبقريتهاraquo; سوى لعبة المقاسمة والمحاصصة والانتهاب.
لم تقم سلطة الطوائف بعد الحرب الأهلية بوجهيها العنيف والبارد، إلا على المطلق السياسي. وتالياً على المطلق الاجتماعي والاقتصادي. وثالثاً- وهو الأخطر والأدهى- على المطلق الثقافي. ثم على ما يجعل هذا الثقافي، إما تابعاً مستتبعاً أو عدَماً مقصيَّاً.
ولأن laquo;سلطة الطوائفraquo; مطلقة إلى هذا الحدّ، فلم يكن لها، لكي توطد مصالحها، إلا أن تستقرّ على مثلث توازنات يتجدد على الدوام، بين رئاسات الجمهورية والنواب والحكومة. فكان للّبنانيين الكثير من مطالع السوء بسبب من الزواج المنافق بين مال الحرب ومال السياسة النيوليبرالية وسلطة العرف الطائفي. زواج شرع يفكك ما تبقى من أواصر المجتمعين السياسي والثقافي.
إلى أجل غير منظور، يظهر أن الثقافة المبدعة، الناقدة لقيم الطائفية ستبقى على أحوالها من التشرذم والتفتت. فهي وأصحابها، بصدد موانع لا تضاهى بقسوتها: إنها أمام موت السياسة بالفعل.. بعدما موّتتها حروب الطوائف ومنازعات المذاهب على مدى عمر الاستقلال. وإنها كذلك أمام جدران إسمنتية مانعة للتواصل. ومعيقة لنشوء ما يسمى المجتمع المدني. بل ثمة إصرار واع على استبقاء الثقافة اللاطائفية مجرد بيئات متفرقة مبعثرة لا جسور بينها، وعلى جعل كل بيئة بعينها مجرد أفراد لا يلتقون إلا على السلبية والاحتجاج البارد..
هل الصورة قاتمة ورمادية إلى هذا الحد؟
ربما.. لكن لست أكتفي بهذه الزاوية المعتمة في المشهد الثقافي اللبناني. ثمة بلا شك، زوايا تشير إلى احتمالات سعيدة. إلا أنها لاتزال واهنة وضعيفة. فالاحتجاج على فساد المشهد مهم وجوهري، إلا أنه لايزال مضمراً، إما بسبب خوف مقيم من تلك الشبكة الهائلة من تقنيات المنع، وإما لعدم وضوح الرؤية وسيل الأوهام التي ولَّدها زمن الاستقطاب الطائفي والمذهبي المستأنف. إنه احتجاج لايزال مستغرقاً في التفاصيل، وغير قابل لأن يتحوّل إلى قوّة جماعية تطلق السؤال على حرمة النظام الطائفي نحو مداه الأخير.