عبدالحميد الأنصاري

إنه لأمر محزن بل مشين أن يوظف أحد الدعاة منبر الجمعة ليكيل الإساءات إلى الآخر المختلف مذهباً، هذا ما حصل في أحد مساجد الرياض، إذ استغل الخطيب منبر بيت الله لينفس عن كراهيته العميقة لإخواننا الشيعة ومراجعهم العليا، ووجه إساءات بالغة لـ300 مليون مسلم شيعي، وجرح مشاعرهم ووصف مرجعهم الديني الأعلى سماحة آية الله السيد علي السيستاني بأوصاف نابية، ولم يتورع عن استغلال منبر بيت الله لبث كراهيته وشق صفوف المسلمين وإثارة الفتنة الطائفية، ولم يراع حرمة البيت ولا حرمة الجمعة ولا حرمة عرض المسلم، فانتهك الحرمات كلها بتلك الإساءات التي لن تضير إخواننا في الدين، وشركاءنا في الوطن، بل تضيره هو لأنها نوع من البغي، وقد قال الله تعالى: laquo;يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمraquo;.
وعلينا- كتاباً ومثقفين- أن ندين هذا التصرف، وعلى كل المؤسسات الإسلامية والرموز الدينية أن تستنكره، فهذا العمل مناقض لتعاليم الله ولآداب الدعوة إلى الله، وتصريحات هذا الخطيب، ولا أقول خطبته- لأن الخطبة الدينية أرفع وأسمى- مسجلة بالصوت والصورة، وتناقلتها المنتديات الإلكترونية، وهي لا تمثل بأي حال الشعب السعودي ولا تعبر عن علماء السعودية، فضلاً عن أنها تناقض توجهات حكومة خادم الحرمين الشريفين.

وقد أحسن الشيخ عبدالمحسن العبيكان في مسارعته إلى الرد حين قال: 'إن تصريحات هذا الخطيب لا تمثل رأي الحكومة السعودية، وإن خادم الحرمين الشريفين يسعى دائماً إلى نبذ الخلافات بين المسلمين، وتوحيد الكلمة، وترك التطرف بكل أشكاله التي تشق صف الأمة'، وأضاف: 'أنه يجب التعايش السلمي بين الطوائف وعدم إشغال المسلمين في النزاعات التي لا خير فيها، مؤكداً احترام أهل العلم للرموز الدينية من كل الطوائف والأديان، ومشدداً على أن هذا الرأي الذي خرج به هذا الداعية أمر مرفوض تماماً'.

إن ما تفوه به هذا الخطيب أمر تعاقب عليه كل التشريعات السماوية والوضعية، انتقد الشيعة واتهمهم بالسعي إلى محاصرة السعودية من الجنوب بمساندة الحوثيين، ومن الشمال والشرق عبر لعب أدوار ضدها، وهذا رأي سياسي ليس مكانه منبر الجمعة، وهو تعميم ظالم للشيعة لأن إيران كدولة لها طموحاتها في المنطقة غير الطائفة الشيعية الذين ينتشرون في مختلف البلاد العربية والإسلامية، ولا علاقة لهم بالمخططات الإيرانية!

قال الخطيب إن مذهب الشيعة أساسه المجوسية وهم أهل بدع، ورجع إلى التاريخ البعيد ليقول: 'إن عدوان الشيعة على السنّة مستمر عبر التاريخ، إذ تعاونوا مع المغول ضد الخلافة العباسية'، ولكن ما علاقة المصلين بهذا التاريخ البعيد؟! ولماذا إشغالهم بتلك الخلافات والنزاعات التاريخية؟ وما المصلحة؟ وما الهدف؟! ولم يكتف الخطيب الداعية بذلك بل تهجم على 'السيستاني' من غير سابق إنذار أو مبرر فقال: إنه 'شيخ كبير زنديق فاجر'، ولكن ما علاقة السيستاني بالموضوع؟! لأن الحوثيين طلبوا أن يكون هو الوسيط في النزاع مع الحكومة اليمنية، ولم يطلبوا هيئة علماء المسلمين أو الإمام المكي أو الأزهر!! لكن ما ذنب السيستاني إذا طلب طرف سياسي وساطته؟ ولماذا يوصف بالزندقة والفجور؟ وما علاقته بدعم إيران للحوثيين؟ ومن أعطى الخطيب سلطة الحكم على الآخرين وتفسيقهم؟ ولماذا يحاول الإساءة إلى العلاقات بين الدول؟ ومن يظن نفسه؟ ولماذا لا يلتزم حدوده؟!

كل هذه الأسئلة توجب على مؤسساتنا الدينية الوقوف في وجه هؤلاء الدعاة الذين يتخذون من منابر بيوت الله منابر للتحريض وللأجندة السياسية من غير تبصر بحقيقة الأوضاع ولا معرفة بطبيعة النزاعات السياسية. لقد تجاوز هذا الخطيب كل الحدود حينما عرّض أيضاً بشيعة السعودية قائلاً: 'لولا يقظة الأجهزة الأمنية لرأى الناس من أفعالهم عجباً'، ولو أنصف لعلم أن شيعة السعودية مواطنون أوفياء لم يصدر منهم ما يسيء إلى السعودية أو يعكر صفو أمنها!

يتناسى هذا الخطيب أن الإساءات كلها من فئه محددة معروفة هي 'الفئة الضالة' وهي فئة سنية وليست شيعية، ولم يتورط شيعي واحد في أي مخطط إرهابي ضد السعودية، نحن نعلم تماماً أن السعودية لا ترضى بهذه الإساءات وهي دولة معروفة بالاعتدال ولها دورها القيادي في التقريب بين المسلمين، وتوثيق العلاقات الأخوية الإسلامية، لكن من يشاهد تصريحات هذا الخطيب يتساءل مستنكراً: أين ذهبت جهود مؤتمرات التقريب؟! وأين ذهبت جهود اللقاءات الفكرية للحوار الوطني السعودي منذ يونيو 2003؟!

لعلنا نذكر أن السعودية أولت رعاية خاصة لتلك المؤتمرات واللقاءات ولعلنا نذكر 'المؤتمر الإسلامي العالمي الأول للحوار' الذي استضافته مكة المكرمة في يونيو 2008، وحضره أكثر من 800 عالم من المذهبين السني والشيعي، وافتتحه الملك عبدالله بكلمات بليغة قائلاً: إنه دعا لهذا المؤتمر، لمواجهة تحديات الانغلاق والجهل وضيق الأفق، وخاطب المجتمعين: 'إنكم تجتمعون اليوم لتقولوا للعالم إننا صوت عدل وقيم وإنسانية أخلاقية، وإننا صوت تعايش وحوار عاقل وعادل، وصوت حكمة وموعظة وجدل بالتي هي أحسن'.

كما احتضنت السعودية في ديسمبر 2005 'قمة مكة' بحضور قادة العالم الإسلامي، حيث جرمت الفتاوى التحريضية، وأكد بيانها الختامي صحة إسلام كل المذاهب الإسلامية المؤمنة بكل أركان الإسلام، لقطع الطريق على الفتاوى والخطب المكفرة للشيعة في العراق كتبرير للعمليات الإرهابية، وسبقها 'المؤتمر الإسلامي' في عمان في يوليو 2005، والذي أصدر 'بيان عمان' الذي تضمن تحريم تكفير أتباع المذاهب الإسلامية، وحرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولا تفوتنا سلسلة المؤتمرات الثمانية التي احتضنتها الدوحة حول 'حوار الأديان والمذاهب' وكذلك مؤتمر التقريب في البحرين في سبتمبر 2003 الذي أكد أهمية التعايش والتقارب ونبذ الفرقة والتعصب.

إن جهود كل تلك المؤتمرات واللقاءات على امتداد السنوات الماضية، مهددة اليوم بالضياع! وكل تلك الجهود الحثيثة والمخلصة للتقارب معرضة اليوم للتشكيك في مصداقيتها، فالتصريحات العدائية للخطيب الذي استغل منبر الجمعة للإساءة لـ300 مليون مسلم شيعي تزلزل ثقة الشعوب الإسلامية بجدوى تلك اللقاءات! فالتصريحات المسيئة تنسف كل تلك الجهود وتضعف مصداقيتها، ومن هنا على المجامع الدينية ورابطة العالم الإسلامي والإيسيسكو وكل المؤسسات المعنية بالتقريب بذل جهودها عبر اتخاذ موقف حازم وواضح في مواجهة هذه الإساءات، كما أن مستقبل ثقافة الحوار كله معرض للإخفاق إذا تركنا laquo;دعاة الكراهيةraquo; يوظفون المنابر- المساجد والمدارس- لخدمة طروحهم الإيديولوجية.

وعلينا أن نحول دون استخدام هؤلاء لمنابر بيوت الله في غير أهدافها المشروعة، وعلينا تجريم من يخرج عليها، فقد قامت فرنسا بطرد إمام متطرف حضّ على كراهية الآخر، وقد أبعدت من قبل 129 إماماً وواعظاً، وقال الوزير: فرنسا تحترم حرية الأديان إلا أن المحرضين على العنف لا علاقة لهم بحرية الأديان، ولا مكان لهم بيننا، لذلك ينبغي أن نمنع 'دعاة التطرف والكراهية' من استغلال منابرنا وإلا فقل: وداعاً لمؤتمرات التقريب بين المذاهب!