عبدالله السويجي

بعد منتصف ليلة الأربعاء الماضي، وبعد أن أدى المصلون قداس عيد الميلاد في كنيسة مريم العذراء في نجع حمادي في صعيد مصر، أطلق مسلحون النار من سلاح آلي على المصلين لدى خروجهم من الكنيسة، فقتلوا ستة وأصابوا عشرة آخرين، قالت الأنباء إن نصفهم في حالة الخطر . وفي اليوم الثاني تجمع متظاهرون أمام الكنيسة احتجاجاً على مقتل زملائهم، وفرقتهم الشرطة المصرية بالغاز المسيل للدموع . وقالت وكالة ldquo;رويترزrdquo;: إن المتظاهرين حطموا واجهتي محلين ورشقوا قوات الشرطة بالحجارة .

الأنبا كيرلس، أسقف كنيسة نجع حمادي قال إن الكنيسة على علم بأحد منفذي الهجوم، وقال إن له سجلاً إجرامياً، وترجح التحليلات أن الشاب الذي شن الهجوم، كان دافعه الانتقام من شاب قبطي شهّر بفتاة مسلمة، قيل إنه اعتدى عليها في فرشوط بصعيد مصر، الأمر الذي أثار صدامات بين المسلمين والأقباط قبل عدة أسابيع . بقي أن نقول إن الإحصائيات تشير إلى أن الأقباط يمثلون نحو 10% من سكان مصر الذين تجاوز عددهم 80 مليون نسمة .

المصادمات بين الأقباط والمسلمين في مصر ليست جديدة، وإنما هي فعل يتكرر بين فترة وأخرى، ومعظم تلك الأحداث كانت تقع لأسباب اجتماعية أخلاقية، فيزيدها اختلاف العقيدة تعقيداً، ما يعني أن النفوس محتقنة، وأن التعامل لا يتم على أساس المواطنة ولكن على أساس الدين .

البعض يقول إن هذه الأعمال موجهة ضد النظام في مصر، لخلق حالة من عدم الاستقرار، إلا أن المسألة أعمق بكثير من مجرد ضرب موسم سياحي، أو خلخلة النظام السياسي، لأن أي هجوم مسلح مهما كانت قوته لا تخلخل نظاماً سياسياً .

الفتنة تطل بعيونها الكثيرة، ليس في مصر فحسب، وإنما في أكثر من بلد عربي، وأطراف الفتنة ليسوا بالضرورة أن يكونوا موزعين بين مسيحيين ومسلمين، بل قد يكونون بين مسلمين ومسلمين، كل طرف يدعي أنه الأصح، وبالتالي يكفّر الآخر، ويهدر دمه . إلى هنا وصل مستوى الحوار بين الأديان، وبين المذاهب، الاحتكام إلى السلاح .

الأداة التي تنفذ هذه الاعتداءات، إن كانت في مصر أو العراق أو الجزائر أو السودان أو لبنان، أو الصومال أو المغرب، ليست بالضرورة هي أداة إسلامية، أو مسيحية، بل، وهكذا يبدو في أحداث كثيرة، هنالك طرف ثالث يسعى إلى خلق الفتنة، لتحطيم الاستقرار في الدول العربية، وتوجيه مؤشر البوصلة بعيداً عن العدو الرئيس المتمثل في العدو الصهيوني . ولا نريد هنا بالطبع، أن نزج بالكيان الصهيوني في كل المصائب التي تضرب المجتمعات العربية، لأن هذه المجتمعات مسؤولة مسؤولية مباشرة عن مصائبها، إلا أن الطرف الثالث، كائناً من كان، أمر يحتمل وروده، ووجوده، وتأكيده، وكثيرون يؤكدون أن التفجيرات (المذهبية) التي تحدث في العراق، يكمن خلفها طرف ثالث، لا يريد لهذا البلد الاستقرار . وهذا الطرف، ليس بالضرورة أن يكون أجنبياً، وإنما من الممكن أن يكون عربياً، فاستقرار العراق قد يهدد أنظمة أخرى، ومن هنا، يلعب الشيطان السياسي لعبته، وتستمر سلسلة الانفجارات، والاعتداءات .

الحوار غائب، يعني أن الوعي غائب، ويعني هذا أن الأفق الضيق حاضر بكل تزمته وتطرفه وعصبيته، ساعة يتخفى وراء العشيرة، وأخرى وراء القبيلة أو الحزب أو الدين، أو العادات أو التقاليد، وغياب هذا الحوار يشير إلى فشل الدول في خلق حالة ثقافية مبنية على التعايش، وقبلها مبنية على الحقيقة الدامغة، المرفوضة من قبل البعض، التي تقر بوجود أديان سماوية متعددة، وغياب هذه الثقافة يقود إلى الممارسة العنيفة في السلوك والمواقف، ويؤدي إلى سفك الدماء . ويبدو أن النظام التعليمي مسؤول مسؤولية مباشرة عن هذا الوعي المنقوص بشأن التسامح بين الأديان، هذا التسامح الذي كان يمارسه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأبهى تجلياته، فإذا كان المعلم الأول، وخاتم الأنبياء يمارس هذا التسامح، فلماذا لا يمارسه المتدينون، أليس لهم في رسول الله أسوة حسنة؟

إن النظام التعليمي، القائم على حشو العقول، هو المسؤول الأول والأخير عن هذا التخلف، وعدم وصول الدولة إلى مناطق كثيرة، تعاني من الجهل، وهي مستباحة من قبل مجموعات تدعي الإيمان، ينتج عنه هذا التصادم العقائدي، والذي يقود إلى صدام مسلح .

مصر دولة كبيرة وعظيمة، ومصر مستهدفة من أكثر من جهة داخلية وخارجية، وحين نقول مصر، لا نعني النظام السياسي، وإنما نعني مصر القوية بإمكاناتها، وشعبها ودورها المؤثر على الصعيدين العربي (بآسيويته وإفريقيته) والعالمي، ناهيك عن ثقلها السياسي في قضية فلسطين، وقضايا الشرق الأوسط الأخرى، ولهذا، فإن الذئاب تسن مخالبها لتدمير التماسك الداخلي للمجتمع المصري، ولا يوجد أسهل من الدين كوتر يعزف عليه المخربون، عرباً أو مسلمين أو صهاينة أعداء، وبالتالي، فإن مصر ستستمر في تعرضها لمثل هذه الهجمات، وإن توقفت الهجمات بأدوات داخلية، ستستمر بأدوات خارجية، تترك خلفها بصمات إما إسلامية أو مسيحية .

ما ينطبق على مصر ينطبق على السودان، وعلى العراق، والصومال، واليمن، وعلى كل دولة تحتضن أقليات مسيحية أو إسلامية أو يهودية وغيرها .

إن التحصين الداخلي أمر لا يأتي خلال عام أو عقد، إنه عملية توعية مستمرة، تحتاج إلى أجيال كي تنجح، ولكن، وفي المقام الأول، لا بد من إلغاء التناقضات، والتخلص من الانتماءات المزدوجة للأنظمة، حتى لا تترك (للمجتهدين) حق التأويل، وبالتالي، حق التكفير، وصولاً إلى حق إهدار الدم والقتل .