عبدالوهاب بدرخان

من شبه المؤكد أن العودة الوشيكة للمبعوث الأمريكي الخاص جورج ميتشل إلى المنطقة باتت تعني أن المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية ستستأنف قريباً، وتفترض التطورات السابقة والاتصالات الحالية، أن تكون المفاوضات هذه المرة مختلفة، بمعنى أن تكون هادفة، أي أن يكون مفهوما أنها متى انطلقت لابد أن تتوصل إلى تسوية نهائية.
هذا هو المنطق، لكن هذه المفاوضات افتقدت منذ ولادتها إلى أي منطق، فما الذي تغير ليجعلها مختلفة؟.
هناك معطيات جديدة، لكنها لم تختبر بل كانت مجرد تحركات على الهامش، وعلى خلفية أزمات تمر بها الأطراف كافة، إدارة باراك أوباما دخلت في خلاف مع حكومة بنيامين نتنياهو حول quot;الثوابتquot;، الإسرائيلية في التفاوض، وساهمت واشنطن عن قصد أو عن غير قصد في تظهير السلبية الإسرائيلية خصوصا بإصرارها على وضع حد للاستيطان كشرط لابد منه لأي تفاوض جدي ومجد، مع ذلك ظل الخلاف الأمريكي-الإسرائيلي تكتيكيا، ولم يسجل أي تغيير جوهري في الحلف الاستراتيجي أو في الدعم الأمريكي لإسرائيل وحتى للصيغة التي تتصورها للتسوية، أما المنحى quot;الجديدquot; الذي اعتمده أوباما فيرتكز عموماً إلى كونه لا يؤيد التفاوض لمجرد التفاوض، كما فعل رؤساء سابقون، وإنما هو مستعد لتوفير الضمانات المطلوبة من أمريكا لأي تسوية يتفق عليها الطرفان.
حاول نتنياهو أن يتحدى الرئيس الأمريكي، وتمكن من إحراز نجاحات في التصدي للضغوط بشأن وقف الاستيطان، حتى إنه انتزع تراجعا من أوباما الذي ما لبث ان استدار نحو الجانب الفلسطيني طالبا العودة إلى التفاوض من دون اشتراط وقف الاستيطان، وللمرة الأولى أمكن للأمريكيين أن يتعرفوا إلى موقف فلسطيني غير راضخ، إذ لم يكن لدى السلطة الفلسطينية عمليا أي خيار آخر، وقبل أن تشتد الضغوط اضطر الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى استخدام quot;وسيلة المساعدةquot; الوحيدة التي بقيت لديه، إذ أعلن أنه لن يستمر في منصبه بعد انتهاء ولايته، وفهم الأمريكيون أنه لن يكون مجديا الضغط عليه بعد الآن، إلا إذا أمكن الاقتراب بشكل أو بآخر لتلبية مطالبه.
رغم أن إسرائيل دأبت على تهميش السلطة الفلسطينية، والتقليل من شأنها ورغم أن نتنياهو عاد إلى السلطة وفي نيته التخلص من المفاوضات أو الانقلاب عليها وتغيير الوجهة عبر رزمة إجراءات تجعل من السلطة نوعاً من إدارة حكم ذاتي، إلا أنه أدرك سريعاً أن الأمريكيين والأوروبيين الداعمين التقليديين لإسرائيل لا يؤيدون برنامجه بل يتعاملون معه على أنه متطرف، ثم انهم يعارضون بشدة تحجيم السلطة أو العبث بوضعها بغية تفكيكها، لذلك لم يجد نتنياهو مفراً من معاودة السعي إلى تفاهم مع واشنطن، على قاعدة التفكير في صيغة ما لوقف الاستيطان أو بالأحرى لتجميده.
أما الجانب العربي فكانت له مساهمة في المعطيات الجديدة الممهدة لاستئناف المفاوضات، فمن خلال اللجنة العربية لمتابعة مبادرة السلام أمكن بلورة مشروع تحرك لدى مجلس الأمن بهدف استصدار قرار يحدد حدود quot;الدولة الفلسطينيةquot; المرتقبة ويؤكد أن القرارات الدولية هي المرجعية المعترف بها لأي مفاوضات ورغم هزال هذا التحرك العربي وبقائه في الكواليس، إلا أنه بدا ذا مغزى، بدليل أنه شكل الحافز لما عرف فيما بعد بـquot;المبادرة السويديةquot; التي صيغت في قرار دعيت دول الاتحاد الأوروبي إلى اعتماده ومع أنها اعتمدت بعد تعديلات إلا أنه شكل ما يشبه quot;الإنذارquot; لحكومة نتنياهو التي اشتبهت بأن التحرك السويدي تم بإيحاء أمريكي أو على الأقل بعدم ممانعة.
بالنسبة إلى واشنطن شكل إعلان نتنياهو تجميد التوسع في المستوطنات لمدة عشرة شهور بداية لاستئناف التحرك وإن لم يبد كافيا لاستئناف المفاوضات على النحو الذي يعيد الاعتبار للسلطة الفلسطينية، لذلك انكب حوار ميتشل وفريقه مع مستشاري نتنياهو على استنباط نوع من الجدول الزمني للمفاوضات بحيث تسفر خلال سنتين عن تسوية نهائية تشكل أحد أبرز إنجازات أوباما الدولية في ولايته الأولى وبموازاة ذلك أخذ الأمريكيون في الاعتبار هواجس كل من الطرفين واستعدوا لصياغة رسالتي ضمانات يقدمها أوباما إليهما قبل استئناف التفاوض، أما العنصر الثالث فهو نظام رعاية جديد للمفاوضات يضم إلى الولايات المتحدة، مصر والأردن باعتبار أنهما قادران على التأثير في الجانب الفلسطيني.
استناداً إلى ما يتسرب عن الاتصالات الجارية حالياً، فُهِمَ أن المرحلة الأولى من التفاوض ستركز على الحدود، وإذا توصلت إلى اتفاق فإنه سينعكس بالضرورة على ملف الاستيطان وسيعني بالتالي أن قرار التجميد سيصبح دائما، وهو ما أوحى به مستشارو نتنياهو باعتبار أن quot;التجميد المؤقتquot; هو الممكن حاليا في التحالف الحكومي الراهن، ويفترض أيضا أن تعالج مسألة quot;مرجعية المفاوضاتquot; على خطين، الأول هو الضمانات الأمريكية، والثاني من خلال المفاوضات نفسها والتغيير في نمطها ومنهجيتها، إذا صح أن هناك تغييرا.
ماذا يعني كل ذلك؟ المهم أولا وأخيراً أن تكون هناك شفافية، لأن الخداع الإسرائيلي-الأمريكي في المفاوضات له تاريخ أسود في الذاكرة الفلسطينية والعربية، والمهم أيضا ألا يترك أي ملف، خصوصا القدس واللاجئين، بحجة أن الأجندة تلح وأن الوقت ينفد.
والمهم كذلك ألا تهمل معطيات المفاوضات السابقة، لأن التفاوض من نقطة الصفر مجدداً سيعني أن مهلة السنتين لن تكفي لإنجاز ملف واحد، والمهم أخيراً أن أي تسوية تستحق أن تسمى عادلة لابد أن تتم برضا فلسطيني واضح وليس على مضض.
في اللحظة التي تستأنف فيها المفاوضات سيتضح ما إذا كان الإسرائيلي حسم أمره وأصبح مريدا للسلام، لكن، في تلك اللحظة أيضا سيبدأ الحراك الإسرائيلي لفرط الائتلاف الحكومي والاعداد لتغيير المشهد السياسي، إلا إذا كان ثمن التسوية أن يرضي نتنياهو متطرفيه بالذهاب إلى حرب أخرى في غزة أو في لبنان ويكون متحققا هذه المرة بدرجة أكبر من الصمت العربي الرسمي.