منصور مبارك

الديمقراطية أداة لتسيير العلاقات في المجتمع، وحرية بأن تتمدد في ثنايا المجتمع، وتحكم حركته وحراكه. ذاك أن الفضاء الاجتماعي الذي تستوطنه الديمقراطية وتترعرع فيه، هو عينه من يفرز النمط الذي به تتحرك الديمقراطية.. فليس محجوباً عن الذهن، كون الديمقراطية تنتشر، كما الشعاع في الاتجاهات كافة، بحيث لا توفر حيزاً من العتمة. فهي تخترق المنظومة الرأسية للمجتمع لتنظيم العلاقة بين السلطة والأفراد، من دون النظر إلى تباين خلفيات الأفراد الاجتماعية وطبقاتهم.
كما أنها تخترق كذلك المنظومة الأفقية للمجتمع لتنظم العلاقة بين الأفراد وبعضهم البعض، وبمعزل عن السلطة وأجهزتها، بحيث يمكن القول إن المجتمع المتصالح مع الحداثة، ليس سوى ذاك الذي تعتمد وحداته الاجتماعية الديمقراطية لغة للتواصل والتفاهم، وتسقط في أحضانه فضائل الديمقراطية، من مثل قبول الآخر وآرائه، واحترام التعددية، ونبذ الحقائق المطلقة، والثقة المتبادلة.
في هذا السياق، لا يغدو الإقرار بالحركة الرأسية والأفقية للديمقراطية، بوصفها شرطاً شارطاً للممارسة الديمقراطية، أمراً عسيراً. فليس مجافاة للصواب القول بأن الحكم على مجتمع ما، بكونه ديمقراطيا من عدمه، إنما هو رهن بمدى استيفائه لهذا الشرط.
غير أن الأمر ليس بتلك السلامة النظرية حينما يتصل بالواقع والجماعات. فثمة أسئلة تستثيرها بعض التجارب الديمقراطية، منها على سبيل الحصر، لا الإحاطة، مدى صوابية القول بأن الديمقراطية، بوصفها أداة لتسيير العلاقات قابلة لأن توظف بطريقة متعسفة؟ وعما إن كان بمقدور الأفراد والجماعات تحويلها إلى أداة لجلب المنافع والنفوذ؟ وهل بقدر من التفنن على المصطلح الخلدوني للسلطة القول بإمكان تحول الديمقراطية إلى أداة للغلبة على الآخر والسيطرة عليه؟
تلك الأسئلة ليست منبتة الصلة عن الواقع، أو سهاماً طائشة تتكفل المصادفة بإيجاد أهدافها، بل هي أضحت، حينما يتعلق الأمر بالواقع السياسي في الكويت، أسئلة لا تحتمل ترف التأجيل والمداورة. والآية على استفحال ذلك المأزق، الذي ترزح تحت وطأته الممارسة الديمقراطية في الكويت، أنه تمظهر على هيئة أسئلة تشكك في جدوى النشاط الديمقراطي، وعما إن كانت الديمقراطية حقاً أداة مثلى لتسيير العلاقات في المجتمع.
وعلى قدر حراجة تلك الأسئلة وصعوبتها، فإنها تلوح ضرورية كي يتبين المرء حقيقة الوضع الذي تختبره الديمقراطية في الكويت. فالانكشاف على الأسس الثاوية في الديمقراطية الكويتية من جهة، وقياس مدى تفاعلها مع درجات تطور المجتمع من المنظور الكمي والكيفي، هما أمران لا مندوحة عنهما لإبصار الصورة الحقيقية لجوهر الديمقراطية من دون التلهي بانعكاساتها البراقة. ولقائل أن يقول بالصعوبات التي تواجهها الديمقراطيات الناشئة وتلك المستولدة في العالم الثالث، وهو عالم قضى شطراً عظيماً من تاريخه يتمطى على هوامش الحضارة، ولكن ثمة فرقا فارقا بين عمليات نقد وتقويم ذاتي يتنكبهما المجتمع في ذروة أزماته، وبين أمنيات بأن ينفضّ المجتمع بأسره عن الديمقراطية ومترادفاً مع التشكيك بكونها خليقة بنثر فضائلها على المجتمع.
ويكتسب المأزق طابعاً حاداً حينما تلاحظ نوعية العلاقة المضطربة والمهزوزة التي تجمع الأفراد بممثليهم السياسيين، أو على نحو أشد دقة، هشاشة الوشيجة التي تربط الأفراد باختياراتهم السياسية، وبالطريقة التي يريدون للمجتمع أن يكون عليها، وهي فجوة اتخذت في بعض الأحايين شكل الهوة السحيقة. فلم نعدم، استتباعاً لذلك، من جهر بعض الأصوات بضرورة إعادة النظر بالممارسة الديمقراطية في الكويت، ونظر بعضهم الآخر إلى مجلس الأمة بوصفه الخطر الأكبر على الديمقراطية، بما تستبطنه تلك النظرة من ثنائية السم والترياق، الذي تقدمه الديمقراطية في وقت واحد.
وللحق، فإن تلك الآراء جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار، وحرية بالدرس والتفكير، إذ إن آلية الحركة الديمقراطية في الكويت في خطيها الرأسي والأفقي تكاد تكون متكلسة ومهترئة، بل إنها في المنظومة الأفقية مشلولة بصورة تامة، وهو ما يحيل إلى موقف ملتبس من فكرة الدولة الحديثة، القائمة على أسس دستورية. كما يمثل في الوقت عينه ميلاً جانحاً إلى بعث الحرارة في شبكات اجتماعية قديمة، يقوم مبدأها الأساس على التطابق والتماثل.. ومن نافلة القول إنها تتنابذ مع الديمقراطية وتنفر منها.
قصارى القول إن هناك نمطاً متكرراً في الممارسة الديمقراطية الكويتية يشكل سبباً ونتيجة في آن، لما شهدناه ومؤخراً، وهو ما يستحق أن يتوقف الفرد عنده، إن أراد فتح مغاليق الأزمة الجديدة القديمة.