جمال أحمد خاشقجي

عندما زرت كاوست قبل أسابيع، أراد مرافقي أن يريني كيف هي الفصول عندهم وهي بالفعل مختلفة إذ في وسطها طاولة دائرية كأنها حلقة نقاش وليست طاولات مستقلة أمام اللوح للتلقي من معلم واحد، فكلهم هناك معلمون.
كان الفصل خالياً إلا من شاب ماليزي، في قميصه المطبوع الواسع، وطاقيته المزخرفة، كان يصلي وحده وخلفه لوحة الدرس البيضاء على امتداد حائط الفصل بالكامل ، وقد خطت عليها أرقام وحروف لعلها نظريات فيزيائية أو رياضيات، تمنيت لو كانت معي كاميرا فهي الصورة المثالية لكاوست quot;الدين والعلم والعولمةquot;.
ولكن الكلمات الثلاث الأخيرة تختصر أيضاً صورة لبلد حقق هذه المعادلة، ماليزيا التي حافظت على تدينها، واستثمرت في العلم quot;علماً وإنتاجاًquot; ، وها هي تتحرر من تحفظات رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد مؤسسة النهضة الماليزية الحديثة ضد العولمة على يد واحد من رجاله هو رئيس الوزراء الحالي نجيب تان رزاق، فانفتحت شرقاً وغرباً تستثمر في الخارج وتستقبل استثمارات العالم فيها.
سافرت إلى كوالا لامبور منتصف الشهر الماضي كي أجري حواراً مع رئيس الوزراء، أستبق به زيارته التي تبدأ غداً للمملكة، ذلك أن ماليزيا هي الشريك الأفضل لبلادنا.
فهي قصة نجاح على أكثر من صعيد، خاصة جمعها بين التدين والعلم والانفتاح على العالم وهو ما نسعى لفعله في المملكة، وتوجد جاذبية بين البلدين والشعبين بل حتى على مستوى القيادة فرئيس الوزراء رزاق يكن احتراماً كبيراً لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، ومن الواضح أن الملك حفظه الله يبادله نفس الاحترام ويشجع التعاون والاستثمار بين البلدين ، لعل بعد المسافة ما حال دون التوسع في التعاون فالرحلة إلى هناك تستغرق نحو الثماني ساعات، ولكننا في الاتجاه الصحيح، أعرف شركات تعمل ببلايين الدولارات بين البلدين، والسياحة السعودية إلى المصايف الماليزية في ازدهار ويطمعون في المزيد، وأصبحت الجامعات الماليزية مقصداً للطلبة السعوديين، وباتت أسماء الشركات الماليزية تتردد بين الشركات الأجنبية العاملة في المملكة، أصحاب الفنادق والمتاجر في مكة والمدينة يسرهم الحاج الماليزي، فهم شعب مقتدر ومرتب.
الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمه من هناك هو تنويع الاقتصاد وثقافة الإنتاج والعمل، فإذا كنا نعتقد بوجود منافسين من حولنا فهناك quot;وحوشquot; متنافسة من حول ماليزيا تتحداها كل يوم في رخص العمالة وجودتها والارتقاء العلمي.
هكذا هي دول شرق آسيا، لم تعد اليابان وحدها بل كوريا وسنغافورة وتايلاند بل حتى فيتنام التي نسيت حربها وتخرج تدريجياً كنمر اقتصادي قادم يجذب استثمارات الشركات الصناعية الكبرى، دون أن ننسى العملاق الصيني الذي كان يوما يشكل تهديداً شيوعياً لماليزيا واليوم شريك تجاري كبير .
وسط جيران كهولاء لا تستطيع إلا أن تعمل 18 ساعة في اليوم ، وبقية الساعات تقضيها بين النوم والتخطيط وكوابيس الاقتصاد وأرقامه ، ولكن ماليزيا حققت المعادلة ونجحت.
وقفت أطل على وسط العاصمة الأنيق من غرفتي بفندق الماندرين اورينتال الفاخر، مساحة جميلة تتوسط نوافير وأشجاراً وأشكالاً جمالية ، رسم بلاطها بتنسيق يشكل لوحة واحدة لمن يطل عليها من عل.
من حولها عشرات المباني شاهقة الارتفاع تشكل معاً الوسط التجاري الذي يعكس قوة الاقتصاد، في وسط المساحة شباب وشابات ماليزيا الجدد يمضون إلى مكاتبهم أو يرتاحون في الساحة المشار إليها.
صورة واحدة لقوة ماليزيا، ولكن خلف هذه المكاتب عشرات المصانع والمزارع والمنتجات، وهو ما نحتاجه نحن لنتجاوز quot;زمن النفطquot; فهل نستطيع أن نحول اقتصادنا إلى quot;إنتاجيquot; لا يكون الإنفاق الحكومي هو العماد الأول للسوق؟
ماليزيا فعلت ذلك.
عندما خرجت من منزل رئيس الوزراء، وهو منزله الخاص وليس الحكومي حيث يفضل أن يعيش فيه خلال أيام نهاية الأسبوع، وجدت أمام المنزل سيارة فاخرة لم أعرفها، سألت مرافقي فقال إنها الموديل الفاخر من سيارات سيدان quot;بيرداناquot; الماليزية، وحسب القانون الماليزي فعلى كافة المسؤولين الحكوميين والوزارات استخدام سيارات من صناعة ماليزية، بمن في ذلك رئيس الوزراء بالتالي طور هذا الطراز ليوائم الفخامة اللائقة برئيس بلادهم الذي نرحب به اليوم في بلادنا.