عبد الملك آل الشيخ

سيظل الجدل قائما في دول العالم الثالث بين فكرتين للتنمية؛ الأولى متشائمة، تسأل عن مدى فائدة المبادئ والسياسات، والمثل العليا، إذ إن الخلل على أرض الواقع من شأنه أن يعيق هذه المبادئ والسياسات والمثل العليا. فيما تؤكد الثانية أن هذه المبادئ هي سبب تقدم الأمم والشعوب، وعليها قامت الحضارات، ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يتغير للأحسن.

ولنا في الدين الإسلامي المثل الأعلى، حيث استطاع من خلال مبادئه ومفاهيمه التي جاء بها أن ينقل العرب من البدائية والجهالة إلى الحضارة والتقدم، حتى أناروا للغرب الأوروبي طريق التقدم في فترة من الفترات.

ومن متأمل في نماذج التنمية التي قدمها أصحاب الفكر الحديث، سواء من المدرسة البنائية أو الوظيفية، فإنه يلحظ نجاحهم في تشخيص مشكلات التنمية في الدول التي تأخرت عن الأخذ بأسباب التقدم والمعاصرة. ولعل laquo;النموذج المنشوريraquo;، لعالم الاجتماع السياسي laquo;فريدرجزraquo;، يعد من أشهر هذه النماذج.

ويدور هذا النموذج حول تشخيص مشكلات الأجهزة الإدارية في الدول النامية، على نظرية laquo;أنساق الفعل الاجتماعيraquo;. ويظهر هذا النموذج سمات الإدارة في الدول النامية، ومدى تأثيرها وتأثرها على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. ويقسم هذا النموذج مجتمعات دول العالم الثالث إلى قسمين: مجتمعات لا تحمل فكرة التحريك والاتجاه نحو التحديث والمعاصرة، وإن قاربت تلك الفكرة، فإنها لا تتوافر على ضمانات لنجاحها، لأنها ضمانات صعبة، مبنية على قرارات حاسمة، مثل فصل السلطات، والمأسسة، ونحو ذلك، مما يستعصي تطبيقه في مجتمعات العالم الثالث، وإن تبنته بعضها. ومجتمعات انتقالية، وفقا لما يحمله معنى الانتقال والحركة.

ويظهر من تحليل laquo;فردرجزraquo; أنه يتجه اتجاها متشائما، يقلل من أهمية المبادئ والسياسات التي يضعها بعض قادة العالم الثالث لتنفيذ خطط التنمية. كما أنه نجح في تتبع أسباب التأخر الإداري المعيق للتنمية في واقع المجتمعات في الدول النامية، لكنه لم يستطرد في وصف العلاج الناجع لهذه الثقافة السائدة في تلك الدول.

نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى الأخذ بالفكرة الثانية، التي تؤمن بأهمية وجود المبادئ والسياسات والتوجهات، فهي التي تدفع محاولات التطور للأفضل والأحسن، لما لها من تأثير انتشاري في ترسيخ هذه المبادئ وتطبيقها في الواقع، ولولا تمسك بعض القيادات السياسية العليا بهذه المبادئ وإصرارهم عليها، والتعبير عنها فيما يصدر من أنظمة ولوائح ومراسيم وقرارات سامية، لما كان هناك أمل في التطوير والتقدم.

لا ننكر إسهامات مفكري الاجتماع السياسي في الغرب، في تحليل الأوضاع التنموية في الدول المختلفة من العالم، وخاصة العربي منها، ولكننا نعيب عليها عدم تقديم حلول تساعد هذه الدول على الإسراع في التنمية لديها، فقد كانت تلك الإسهامات أقرب للفكر المتشائم، غافلة عن الدور الذي يمكن أن تقوم به القيادة السياسية حين ترسخ في وعي الأمة مبادئ تساعد على التطوير والتغيير والتقدم، ولتسهم هذه القيادة في تحويل هذا الفكر المتشائم ليحل محله فكر جديد أكثر تفاؤلا، يدور حول أهمية الإرادة السياسية في مسيرة التطوير والتحديث.

إن خلاصة هذا الفكر أن هناك أملا في أن يحدث التطوير والتحديث لو وجدت القيادات التي تعطي المثل والقدوة، وتعلي من شأن المبادئ والمثل العليا، وتوضح الرسالة والاستراتيجيات والسياسات اللازمة للتطوير والتقدم. وكون السعودية إحدى دول العالم الثالث، فهي أيضا تعاني من العوائق ذاتها، التي تواجهها هذه الدول في مسيرة التنمية والتحديث. إلا أن مشوار التنمية والتحديث في السعودية قد حقق نجاحات كبيرة، رغم وجود تلك العوائق المشتركة مع دول العالم الثالث، وهذا مرده إلى قدرة القيادة السياسية في السعودية على مر تاريخها الحديث بدءا بالملك عبد العزيز - رحمه الله - على وضع الأسس والمبادئ والمثل العليا والاستراتيجيات والسياسات اللازمة للتطوير والتقدم، يصاحبها إرادة سياسية لا حدود لها تُذلل فيها الصعاب وتتحقق بها التنمية.

وعلى صعيد التنمية والتقدم في السعودية في وقتنا الحاضر، فقد استطاع الملك عبد الله بن عبد العزيز أن يضع لبنات قوية لمبادئ وسياسات تنموية، وتوجيهات مثالية نحو التقدم، لتحديث هذه الدولة، بإرادته السياسية، ورؤيته الاستشرافية، المتفائلة للمستقبل.