أحمد فرحات

في الستينيات، وفي فرنسا بالتحديد، بدأ التبشير بنهاية المثقف، أو موته. وكان جان بول سارتر، هو أول من أشار إلى هذا الأمر، باستنكار طبعاً، في محاضراته من على منابر مختلفة، داخل فرنسا، وخارجها، ولاسيما في اليابان.
فتحت تأثير أفكار فلسفية براغماتية متهافتة، وفائضة القيمة في تهافتها، يقول سارتر، أطلقت تكهنات بزوال هؤلاء المنخرطين بضرورة معرفة كل شيء، وتنبأت باضمحلالهم، لأن التقدم العلمي والتقني سيفضي، لا محالة، إلى الاستغناء عنهم، واستبدالهم بباحثين بحت متخصصين.
وفي معرض تشخيص وضعية المثقف من جوانبها المختلفة، حاول الفيلسوف الفرنسي الراحل، الدفاع عن المثقف، وإنقاذ صورته، أمام كثرة كاثرة من المتهافتين على السياسة، والمال، والإعلام، وباقي أدوات القوة والتسلط.
لكن الدفاع عن المثقفين، من الوجهة السارترية، لا يعني الهروب من موضوعية تصور أحوالهم، ومواقفهم، فهم، كما يرى مثلاً، لا ينتجون، وليس لهم إلا أجرهم أوداً لحياتهم... وهذا ما يجردهم من كل إمكانية للدفاع عن أنفسهم في المجتمع المدني، وفي المجتمع السياسي على حد سواء.. ها هم أولاء إذاً عديمو الحيلة، متذبذبون في جهاز البداهة واليقين فيهم.
ويخلص سارتر إلى أن المثقف تقني معرفة، يدرك التعارض القائم فيه، وفي المجتمع.. وهو يظل شاهداً على المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها هي بالذات، وهو بالتالي تاريخي وعقلاني. وفي هذا المعنى لا يسع أي مجتمع أن يتذمر ويشتكي من مثقفيه، من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام، لأن مثقفي هذا المجتمع ما هم إلا من صنعه ونتاجه.
هل يمكن أن ينتهي دور المثقف؟
الحقيقة أن كل مثقف لا يملك شجاعة إعادة النظر في الذات، أو سياق نسقه عينه، فإن مصيره الانتهاء والبوار. فالحياة نداء داخلي من أجل الإقرار الدائم بقوانين الحراك، والتطور، والنظر إلى الزمن، باعتباره إعادة تأليف لواقع الوقائع ونقدها في استمرار.. والثقافة بهذا المعنى، هي تساؤل مستمر حول الواقع، يمثل خلالها المثقف تلك المجابهة المولّدة لجسدها، حتى من الصمت.. فكيف بالمعرفة والتجربة، اللتين تمتحنانه بطرق مختلفة، كل يوم؟!
من مهمات المثقف المركزية إذاً الدفاع عن الإنسان ككائن نوعي، تستثمر طاقاته حتى الخاملة منها، خصوصاً، في عالم يضيق ويتعقّد في استمرار.
كما أن من مهماته تنبيه الوعي غير المتشكل في الآخرين بعد، وشحنه بالزخم، والمفارقات المبدئية، ووحدة الانصباب على الجوهر... وعلى المثقف دائما أن يخرج من ذاته، محترفا الشوق إلى ما هو أبعد، ليؤسس مع الآخرين، هوية المواطنة الفعلية، ودفع السياسة إلى أن تكون مدنية بامتياز، لتقيم هذا الجدل المتفوق والراقي مع مفهوم المواطنة، بحيث يندفع الجميع إلى حسن الاستخدام العمومي لعقولهم.
لذا، المثقف هو دائماً شرفة الآخر، وأفقه، وربما مستقبله أيضاً. إنه إنسان العالم ما بعد الشخصي، وما بعد القومي، وحتى الديني، عملاً بمقولة laquo;يونغraquo; من أن laquo;الإنسان هو مستقبل الانسانraquo;.
إن وعي المثقف، أو المفكر لدوره الموصول بالمواقف المتجاوزة، الجريئة، والعادلة، يمثل في المحصلة سداً منيعاً ضد الإحباط، واليأس المجتمعي العام، بخاصة، وأن متحف البربرية يتسع كل يوم، صاخباً بالعدوانية، والشرور، وإقصاء المهمشين والمغلوبين من عشاق الحرية غير المزورين.
وعي المثقف الحقيقي إذاً، شقي، ويظل حياً وفاعلاً، لأنه ببساطة ينخرط في علّة وجوده، والتزامه خلال هذا الوجود بالصحو والأحلام العادلة.. إنه دوما مهووس بالأمل والحب وقرابين الأضحيات الفردية.
مقطع القول، مستقبل المثقف كتاريخه، يصاغ في وحدة غناه وتقدمه، ولا يمكن الالتقاء مع هذه الوحدة إلا في ذروة كثافة حضورها في الزمن.
وإذا كان من طبيعة الحقيقة التي ينشدها المثقف، أن تجعل منه أحياناً ينمو نمواً مشوشاً، أو انطوائياً، أو مجرداً، فإن ذلك لن يكون سوى حالة مؤقتة، يعود بعدها الى تصويب الرؤية، وتحديد المسار المطلوب.
وعليه نتساءل: أما ولد المثقف الحقيقي من انشطار تاريخي بين وطنه الموجود، وذلك الموعود؟!
هذا القاتل لكثافته والمقتول بها يومياً.. هذا المشغول دوماً بإلغاء الأسباب التي تبرره، لن ينتهي أو يموت قطعاً، وكأني بالمجتمعات الخائبة، إن لم تستحق مثقفها، تزل.