علي محمد فخرو


قبل استلام الرئيس الامريكي باراك أوباما مقاليد الحكم منذ حوالي سنة كتب الكثيرون، ومنهم كاتب هذا المقال، بأن نظام الحكم في واشنطن، والذي يهيمن عليه ثالوث المال والصناعة والعسكر، والذي تضع المكياج على وجهه شبكة إعلامية مترامية الأطراف ومملوكة من أو تابعة لذلك الثالوث.. بأن نظام الحكم ذاك سيكون أقوى من النوايا الحسنة ومن أحلام اليقظة لأيً رئيس، بل وأقوى من إدارة أية موجة شعبية حملت ذلك الرئيس للحكم. ذلك أن جميع خيوط اللعبة الديمقراطية، اللاًّبسة لألف قناع مضلٍّل، والملتفة حول رقبة كل رئيس، هي في قبضة ذلك الثالوث الفولاذية.
من هنا فانه لم يكن مفاجئاً أن تنفجر الفضائح تلو الفضائح في وجه الرئيس الجديد. فلقد وعد ذلك الرئيس بإغلاق سجن غوانتانامو خلال سنة، ولكن السجن لايزال باقياً وشاهداً على السقوط الأخلاقي المذهل لبلد القانون.
ووعد الرئيس بأن لا تتعامل بلاده مع بلدان العرب والمسلمين ومع عرب ومسلمي أمريكا نفسها بأيٍ تحيٌّز أو انتقائية أو عدوانية حقوقية، ولكن ها هو يتكلم وكأن روح الشرٍّ البوشية قد تقمًّصته، وتوجٍّه أجهزته الأمنية الإتهام المسبق إلى كلٍّ مواطن في أربع عشرة دولة عربية وإسلامية، ويستفرد بهم في مطارات بلده ليقفوا في صفوف التفتيش البشع كمجرمين وقطًّاع طرق، منكًّسي الرأس ومنبوذين.
ومنذ عدد قليل من الأيام بًّرأت احدى محاكم بلاده خمسة مجرمين من مجنًّدي إحدى شركات المرتزقة الامريكية، مع أن القاصي والدًّاني يعرفان بأن أياديهم ملطًّخة بدماء عدد من العراقيين المدنيين الأبرياء.
ومنذ يومين صدر تقرير صندوق النقد الدولي ليشتكي من أن بعض الدول الكــبرى (وهل هناك أكبر من الولايات المتحدة الامريكية؟) مارست ضغوطاً على موظًّفي الصندوق ليغيٍّروا بعض الأرقام ويتلاعبوا ببعض الاستنتاجات الاقتصادية والمالية بشأن بلدانهم. ولايحتاج الإنسان إلى عبقرية ليعرف أن الصندوق وموظفيه كانوا خاتماً في الإصبع الامريكي عبر تاريخ هذه المؤسسة في تمثيل الرأسمالية العولمية المتوحٍّشة وفرض إيديولوجيتها على فقراء وضعاف العالم الثالث.
ومنذ فترة وجيزة أعلن الرئيس الأستاذ الجامعي القانوني شرط توقٌّف البناء الاستيطاني الصهيوني لبدء المفاوضات بين السلطة الفلسطينية في رام الله والسلطة الصهيونية في فلسطين المحتلًّة، ولكن تبيًّن أن الثالوث الامريكي، الممسوكة رقبته من قبل قوى الصهيونية الامريكية وقوى الأصولية المسيحية الامريكية المتعاطفة والمتشابكة معها، اعطى الضوء الأخضر لأن يتمًّ التراجع عن وعد الرئيس وإذا بالكونغرس الامريكي يعلن المرة تلو المرُّة رفضه لوضع أيُّ ضغط، من أي نوع كان، على الكيان الصهيوني، فيجد الرئيس الامريكي نفسه يقف عارياً وبالعاً ماوعد به. والواقع أن الأمثلة المماثلة لا تعدٌّ ولاتحصى.
إذن هناك خلل كارثي في المؤسسة السياسية الامريكية لن يصلحه مجيء رؤساء من أمثال الرئيس الراحل جون كندي أو الرئيس الأستاذ الحالي باراك أو باما. هذا الخلل المفجع إنسانياً أصبح يشكٍّل مشكلة عالمية حقيقية تحمل الأخطار والمفاجآت لكل الإنسانية. فاذا كانت الشعارات الثلاثة الكبرى التي رفعتها أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، متمثٍّلة في الديمقراطية ونظام السوق الحر واحترام حقوق الإنسان قد ثبت زيف بعضها أحياناً أو فساد وفشل بعضها أحياناً أخرى فما الذي بقي من أمريكا النظام العالمي الجديد الذي دشُّنه الرئيس الأب بوش منذ عشرين سنة ؟ وهل هناك أيٌّ دلائل على أن النظام الامريكي الحاكم قادر على مراجعة نفسه في المستقبل المنظور؟ الجواب مع الأسف هو بالنفي، والإثبات هو في مئات الكتب التي نظرت في تاريخ هذه الدولة المفجوعة بجهل وغباء وفساد نخبها الحاكمة على الأقل عبر القرن الماضي بكامله. لم يبق مكان في العالم إلاُ وارتكبت أمريكا بحًّقه أنواعاً من الأخطاء تتراوح بين سوء الفهم إلى الإستباحة والظلم الإجرامي. ولعلُّ أفضل من يكشف تلك الآثام والخطــايا هي الكتب التي كتبت عن ممارسات السٍّي آي إيه وممارسات الإف بي آي كرديفين لحماقات المؤسستين العسكرية والسياسية.
في السًّبعينات من القرن الماضي قال رجل الصًّناعة الامريكي سايروس إيتون: إنني أقلق عندما أرى دولة تقنع نفسها بأن عظمتها تأتي من خلال أنشطة رجال بوليسها 'أمريكا اليوم أصبحت أسيرة نظام سياسي هو بوليسي في تفكيره وتصرُّفاته، ومسكين الشعب الامريكي الطيٍّب الرقيق، أذ أنه لايستحق هذا المصير الكارثي الأسود'.