يوسف مكي

إحدى السمات الجامعة بين مفهومي الاستشراق والعولمة أن كليهما انطلقا من مركزية غربية، ومثّلا عنواناً لهيمنة الغرب على العالم، ومن ضمنه الوطن العربي. ومع ذلك يبقى من المهم التمييز بينهما كمصطلحين.

الاستشراق خرج من رحم الاستعمار التقليدي الذي بدأت طلائعه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد بدأ زحفاً برتغالياً، وانتهى إلى احتلال فرنسي وبريطاني وإيطالي، ليصل إلى المباشرة في تنفيذ المشروع الصهيوني، الذي بشر به وعد بلفور. أما العولمة فهي ظاهرة حديثة جداً، بدأت مع انتهاء الحرب الباردة، وتربع الولايات المتحدة على عرش الهيمنة العالمية، وانتهاء حقبة تعدد الأقطاب.

كانت الأولى محاولة للكشف، وقد تمثلها في كثير من الحالات أفراد عرفوا بولعهم وعطشهم للعلم، بحيث امتزج جموح الهيمنة مع عشق الكشف، وبلغ ذلك حد التماهي الصوفي لدى بعض المستشرقين مع الثقافة العربية الإسلامية. أما في العولمة، فليس من ضمن أهدافها القيام بالحفريات للكشف عن الآثار، ولا قراءة أو مراجعة كتب التاريخ، ولا التعامل مع البشر والجغرافيا، إلا باعتبارهم ثروات وإمكانات ليست عصية على السطو وقابلة للإخضاع. ولذلك فليس في العولمة مكان للعمل والمبادرات الفردية. إنها عمل مؤسساتي تضطلع به منظمات وصناديق ومحطات فضائية وأجهزة اتصالات، وتمارس فيه صواريخ كروز وطائرات الrdquo;بي 52rdquo; والشبح والقنابل السجادية والعنقودية أدواراً رئيسية في عملية الترويض.

على هذا الأساس، نرى أن الاستشراق، رغم أنه في جذوره لم يكن يتم لغايات نبيلة، ورغم أنه لم يكن حيادياً أو نزيهاً، في أغلب الأحيان، فإنه تميز بزخم ثقافي وأنجز الكثير من الكشف عن مجاهل الشرق، متأثراً بسحره ووهج ماضيه الحضاري، مساهماً عن طريق ذلك في تشكيل العقل والرؤية الثقافية الأوروبية تجاه هذا الجزء من العالم. وقد ساعد ذلك كثيراً على تسهيل عملية الاختراق الاستعماري للمنطقة العربية، التي تواصلت بوضوح حتى مطلع السبعينات من القرن المنصرم.

إن المجتمعات الإنسانية ليست كما يبدو على السطح كتلاً هلامية. وهي أيضاً ليست كتلاً صماء. إن التقسيم الحاد لrdquo;الأناrdquo; الذي هو موضوع الاستشراق، والآخر المتمثل في المستشرقين، يطرح في منطلقاته تجانس كل قطب من أقطاب المعادلة على حدة، وتنافر هذا القطب مع الآخر. وهذا في واقع الأمر فصل تعسفي ينقصه الوعي بوجود تناقضات ومصالح وتوجهات مختلفة في المجتمع الواحد، وأن الأمر لا يمكن وضعه في كفة ميزان واحدة عند كل طرف.

في هذا السياق، أشار هاشم صالح في مقدمة كتابه ldquo;الاستشراقrdquo; إلى أنه على الرغم من القواسم المشتركة بين مختلف الخطابات الاستشراقية، إلا أن من غير الممكن إهمال الفروقات بينها، رغم أنها جميعا تدافع عن المنهجية الغربية، وتدعو إلى تطبيقها على التراث الإسلامي. إنها رغم ذلك تختلف عن بعضها البعض. فمنهجية رودنسون ذات تلوين اجتماعي، أكثر من بيرنارد لويس التي تنتمي إلى تاريخ الأفكار التقليدي، الذي ساد في الغرب منذ القرن التاسع عشر، والذي لا يعنى كثيرا بالمشرطية الاجتماعية الاقتصادية للموضوع المدروس، وإنما يدرس الأفكار وكأنها كيان مستقل. وكذلك منهجية كلود كاهين، التي تولي أهمية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية أكثر من منهجية فرانسيسكو جابريالي، أو وليام كانت وبل سميث. وهذا الفرق مهم جداً ولا يمكن الاستهانة به. ويلاحظ أن الجيل الذي برز فيما بين الحربين العالميتين قد مال إلى استخدام أحدث المنهجيات والمصطلحات.

والقول عن ldquo;الآخرrdquo;، ينسحب أيضاً على ldquo;الأناrdquo;، فهذا ldquo;الأناrdquo; ليس مجتمعا ساكنا، ولا يعيش خارج التاريخ. إنه في القلب من هذا العالم يتأثر به ويؤثر فيه. وتحكم العلاقات بين أفراده وطبقاته قوانين الوحدة والتنافر. وهو أيضا خاضع لصراع المصالح، واختلاف الرؤى، داخل كل قطر. وهو بالإضافة إلى ذلك، يعيش واقعاً مجزءاً، فرضته طبيعة المواجهة مع المحتل، ورسم الخرائط بين المنتصرين. وقد أصبحت الدولة القطرية مع مرور الأيام واقعاً معترفاً به، ومقبولاً من قبل شرائح اجتماعية واسعة ومؤثرة. بما يعني أننا أمام أكثر من أنا وأكثر من آخر. والأنا العربي قد تناقض بعضه مع بعضه الآخر في مواقفه، بشكل أصبح معه متعذرا الحديث عن موقف واحد وأنا واحدة. وقد تعاظمت الشروخ وتعددت المنافذ، وتضاربت المصالح بشكل دراماتيكي في العقود الأخيرة، واستمرت بشكل متصاعد، في البنيان الاجتماعي الواحد. أصبح الآخر، إن في صيغة استعمار أو احتلال أو في صيغة استشراق أو عولمة يهيمن في القلب من الأنا. ويجد خطوطاً عدة تدافع عنه.. وتتصدى له هنا وهناك مقاومة تتواجد أيضا في القلب وفي الأطراف، وتعبر عن حضورها بأشكال مختلفة.

لذلك فإن الفصل بين ما هو إنساني على أساس اعتبارات ldquo;الأناrdquo; وrdquo;الآخرrdquo;، لم يعد ممكنا. وأن الأمر الذي ينبغي مواجهته، في عملية الإبداع والفن والكتابة هو أننا لسنا قطباً واحداً في مواجهة قطب آخر، بل إن المواجهة هي في داخلنا وضمن شرائحنا، كما هي مواجهة في قلب الآخر، وضمن شرائحه. ومن هنا يجب التمييز بين ما هو إنساني وقائم على أساس الاعتراف بالمصالح والتفاعل بين الشعوب، سواء صدر عنا أو صدر عن مبدعين وعلماء وفنانيين فيما يمكن أن نطلق عليه بالاستشراق، وبين رفض الاحتلال والاستغلال بكافة شرائحه ومكوناته وأصوله وجنسياته.

ملاحظة أخرى في هذا الاتجاه، هي أن قراءاتنا المستمرة عن الاستشراق قد اتخذت طابع الهروب إلى الأمام. فنحن أمام تغييب حرية الفكر ومصادرة الرأي والرأي الآخر في بقاع كثيرة من الوطن العربي، وأمام العجز عن مواجهة حالة الانسداد التاريخي، فإن النخب العربية أخذت تبحث عن مشجب تعلق عليه أسباب فشلها ونكوصها وانكفائها، بدلاً من أن تقتحم وتتقدم إلى الأمام، وتلعب الدور الذي يفترض فيها القيام به. لقد كانت نخباً عاجزة حقا، في مواجهة حالة التغريب ولم تتمكن من تقديم مشاريع بديلة. وكانت تنتظر من الآخر، أن يتحمل مسؤوليتها التاريخية بالنيابة، وحين يقدم هذا الآخر مشاريعه التي تنسجم مع مصالحه، نصاب بحالة غضب وإحباط ونمارس ردة الفعل بدلاً عن الفعل. وهكذا كانت أدبيّاتنا ولا تزال، مرثيات وبكاء على الأطلال، وسخط على الآخر، بدلاً من أن تكون استشرافا للمستقبل ورسماً لاستراتيجيات جديدة لمقاومة التغريب.

إن الحديث عن الاستشراق وأهمية الانفتاح على أدبياته وعطاءاته، والاستمرار في المطالبة برفع وتيرة تفعيل الحوار مع الآخر، يطرح مشروعية لا تقل وجاهة، ولها أرجحية مؤكدة، هي حوار ldquo;الأناrdquo;، فكيف يمكن في ظل غياب الاعتراف بالتعددية واحترام الرأي الآخر، أن يتحقق حوار متعادل ومتكافئ مع الذات، لننطلق لاحقاً في حوار مع ldquo;الآخرrdquo;.

لقد كنا قبل الثورة الصناعية، نملك أدواتنا ومؤسساتنا الخاصة لمثل هذا الحوار، المنطلق من وعي المرحلة التاريخية التي كنا نحياها. لقد أكد التطور التاريخي ضعف هياكلنا الاجتماعية وهشاشتها، الذي كان من نتيجته تعطل النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بقاع

كثيرة من أمتنا، فهل من المنطقي أن نتكلم عن الاستشراق والعولمة وعيوبهما، وعن أهمية الحوار مع العناصر الفاعلة في جبهة الآخر، من دون أن نصلح بيتنا، ومن دون أن يتعمق الحوار في الداخل مع ldquo;الأناrdquo;؟

بقي أن نشير إلى أن الحديث عن العولمة هو الآخر، ذو شجون، وبحاجة لمتسع من المكان والوقت، ولذلك نسدل الستار إلى حين، على أمل أن نعاود مناقشة هذا الموضوع في أحاديث قادمة بإذن الله.