بشير موسى نافع

إن تركيا تلعب دوراً نشطاً في محيطها الإقليمي، هي حقيقة لم يعد حولها خلاف. لا تقتصر دائرة الدور التركي على المجال العربي، بل تتسع لتصل إلى البلقان، وسط آسيا، والقوقاز. هذه هي دائرة تركيا الجغرافية، وهي دائرة تركيا الثقافية والتاريخية كذلك. الأقنوم الأول في سياسة العدالة والتنمية الجديدة هو تصفية المشاكل العالقة في علاقات تركيا بجوارها؛ أما الأقنوم الثاني فيؤكد ضرورة بناء الاستقرار الإقليمي وتصدي أبناء الإقليم أنفسهم للأزمات ومصادر التوتر، ومحاولة وضع حد لتحويل المنطقة إلى مسرح للتنافس بين القوى الدولية وصفقاتها. في العلاقة المثلثة بين تركيا وإيران والعراق، تبرز محددات السياسة التركية الجديدة في صورة واضحة، وتبرز أيضاً بعض كبريات العقبات التي تواجهها.
تقف تركيا في سياستها تجاه إيران مع حق الجمهورية الإسلامية في امتلاك التقنية النووية السلمية، وتعارض انتشار السلاح النووي في المنطقة. وقد أعرب المسؤولون الأتراك مراراً عن معارضتهم القاطعة لأية حرب جديدة في الجوار، سيَّما استخدام القوة لحسم الخلاف الإيرانيndash; الغربي حول الملف النووي. ولم يكن غريباً، بالتالي، أن تحاول دوائر غربية مناصرة للدولة العبرية تصوير زيارة رئيس الوزراء التركي، الطيب رجب أردوغان، الأخيرة لطهران، وكأنها تؤشر إلى ذهاب تركيا إلى المعسكر الآخر، معسكر المعادين للغرب وخصومه في المشرق. وتلتقي العلاقات الإيرانيةndash; التركية في موقع آخر؛ حيث يلعب البلدان دوراً متزايداً، ومتبايناً بعض الشيء: العراق، فمنذ بداية الاحتلال، انتهجت الإدارة الأميركية في العراق سياسة خرقاء، ارتكزت إلى إطاحة النظام العراقي وإلى تقويض بنية الدولة العراقية كلية، جيشاً وأجهزة أمن ودوائر حكم ومؤسسات إدارة. وقد نجم عن السياسة الأميركية تطوران مهمان، الأول: تحول العراق إلى ساحة مفرغة من القوة، وقوة الدولة على وجه الخصوص. وباشتعال المقاومة العراقية، لم يعد بإمكان إدارة الاحتلال أن تحل ولو جزئياً محل جهاز الدولة العراقية. أما الثاني فكان أن تولت قوى وعناصر سياسية عراقية، معارضة سابقة، تحتفظ بعلاقة تحالفية مزدوجة مع إيران وإدارة الاحتلال، الحكم والسيطرة على مقدرات الدولة الجديدة. فراغ القوة، من ناحية، والتحالف مع إيران، من ناحية أخرى، وفر لجارة العراق الكبرى فرصة سانحة، وغير مسبوقة، لمشاركة الأميركيين مشاركة فعالة في التسلل إلى أغلب مرافق العراق الجديد والتحكم بمقاليده. ولكن النفوذ الإيراني في العراق أصبح مشكلة في حد ذاته.
منذ تكونها كقوة إقليمية في العهد الصفوي، ترتبط إيران بالعراق بارتباطات ثقافية وتاريخية متناقضة. يمثل العراق، من ناحية، خاصرة إيران الاستراتيجية، وباعتباره موطناً للإسلام المبكر، ولمواقع لا حصر لها ذات صلة بتقاليد التشيع الإسلامي، أصبح العراق مصدر إلهام للمسلمين الشيعة، ومصدر شرعية للدول الإيرانية المتعاقبة التي رأت نفسها حارسة للإسلام الشيعي. اهتمام إيران بالعراق، إذن، ليس جديداً ولا مستغرباً؛ وقد كان بإمكان إيران، في لحظة الضعف والأزمة العراقية، الناجمة عن الاحتلال وتقويض الدولة المركزية، أن تؤسس لعلاقة جديدة مع العراق والعراقيين، وأن تبني صلات متوازنة ووثيقة بجميع الفئات والقوى العراقية، وأن تمد يد العون للجار المكلوم والمنهك من أجل الخروج من محنته. ولكن إيران لم تتصرف على هذا النحو.
عززت طهران صلاتها بالقوى القومية الكردية، التي تحكم إقليم كردستان العراقي، وشجعت طموحاتها في السعي لإضعاف المركز العراقي، وبناء نظام كونفيدرالي هش. وقد لعب حلفاء إيران في جماعة الحكيم الدور الرئيس في التحالف مع القوى الكردية، وفي تحويل طموحاتهم الكونفيدرالية إلى نص دستوري، لا يشرع لإقليم كردي وحسب، بل ويؤسس لإقليم شيعي مواز في المستقبل أيضاً. ومن جهة أخرى، كانت بذور الصراع الطائفي قد بذرت في البلاد منذ لحظات الاحتلال الأولى. وبدلاً من أن تعمل طهران على محاصرة قوى الانقسام الطائفي، دفعت باتجاه تأجيجها، ليس بدعم الجماعات والأحزاب الطائفية وحسب، بل أيضاً بتعزيز الخطاب الطائفي في البلاد، والترويج لأساطير الأكثرية والأقلية، والدعوة إلى سيطرة شيعية على جهاز الحكم والدولة. ورغم أن ليس ثمة أدلة قاطعة، فقد تداول العراقيون على نطاق واسع تقارير تفيد بمشاركة إيرانية مباشرة في العنف الطائفي الذي شهدته البلاد، سيما العاصمة بغداد، في 2006ndash;2008.
تركيا أبدت هي الأخرى اهتماماً مبكراً بالعراق، ليس لدوافع الجوار وحسب، ولكن أيضاً لروابط التاريخ والثقافة، والمحددات الاستراتيجية المرتبطة بالمسألة الكردية في البلدين. ولكن الأميركيين أرادوا لتركيا دوراً أمنياً بحتاً، رديفاً لقوات الاحتلال، وعندما تعسَّر مثل هذا الدور، رفضت واشنطن أن تسمح لأنقرة بدور سياسي نشط. وليس حتى انهار المشروع الأميركي، وأخذت واشنطن قرارها بالانسحاب، أن غضت إدارة بوش الابن النظر عن التحرك التركي في العراق. أدركت تركيا من البداية أن استقرار العراق مشروط بالحفاظ على وحدته وبإعادة بناء كيانه ولحمته الوطنية. رأى الأتراك، باختصار أن مصالحهم لا تختلف عن مصالح العراقيين، وأن استقرار العراق يسهم في استقرار الإقليم ككل. ولذا، فقد سعى المبعوثون الإيرانيون إلى بناء علاقات وثيقة بجميع القوى العراقية، الشيعية والسنية والوطنية، العربية والتركمانية والكردية، الإسلامية والعلمانية.
ولم تكن هناك مناسبة لتجلي الافتراق التركيndash; الإيراني في العراق كفترة الاستعدادات للانتخابات العراقية البرلمانية المقبلة. أعادت إيران التوكيد على سياستها الثابتة طوال سنوات في دعم قوى التشيع السياسي، التي لم تسهم في الحياة العراقية السياسة إلا في تكريس الانقسام الطائفي. دعمت طهران إعادة تشكيل الائتلاف الشيعي سيئ الصيت، وعملت على انضمام التيار الصدري إليه، ثم بذلت جهداً ملموساً لدفع المالكي وكتلته الانتخابية للانضواء تحت راية الائتلاف. في المقابل، دعمت أنقرة الجهود العراقية العاملة على تشكيل تحالف وطني واسع، يضم فئات وقوى وشخصيات سياسية عراقية، مختلفة في خلفياتها الطائفية والإثنية، سنية وشيعية، عربية وتركمانية وكردية، إسلامية وعلمانية. ويعتبر تآلف الكتلة الوطنية العراقية، الذي يضم شخصيات مثل طارق الهاشمي، إياد علاوي، رافع عيساوي، صالح المطلق، أسامه النجيفي، وعشرات من القوى والشخصيات الأخرى، أكبر محاولة منذ الاحتلال لإعادة بناء الوطنية العراقية وأكثرها طموحاً. ولكن أصدقاء طهران وحلفاءها يبذلون جهداً مضاعفاً في الآونة الأخيرة، مستخدمين جميع الوسائل والطرق، القانوني منها وغير القانوني، لمواجهة التحالف الوطني، ومنع بعض أبرز قادته وقواه، من خوض الانتخابات، كما هي الحال مع صالح المطلق وقائمته، و14 قائمة أخرى.
الأرجح أن التباين بين مقاربة الدولتين للشأن العراقي لن يؤثر سلبياً على تطور العلاقات الثنائية بينهما، ولا على الموقف التركي من الملف النووي الإيراني. ولكن هذا التباين بين سياسة طائفية وأخرى وطنية، سياسة تستبطن تقسيم العراقيين وأخرى تعمل على إعادة بناء لحمتهم الوطنية، سياسة ستؤدي بالضرورة إلى التشظي وإطالة عدم الاستقرار وأخرى تستهدف الحفاظ على وحدة العراق واستقراره، لابد أن تكون محل تأمل في طهران والمنطقة ككل. إيران جزء لا يتجزأ من المشرق العربيndash; الإسلامي، كانت هنا منذ قرون وستبقى قروناً أخرى. وخلال السنوات القليلة المقبلة، سيكون العراق الامتحان الأبرز، أكثر من أي ملف آخر، للاختيار بين المصالح الإيرانية الضيقة وقصيرة المدى، ومصالح المشرق ككل، واستقرار شعوبه وإدارة شؤونه بيد أبنائه.