عبد الله إبراهيم

..روّج الخطاب الاستعماري لمعرفة خدمت المصالح الغربية في العصر الحديث، فسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمَرة، فكان بذلك جزءا من وسائل السيطرة عليها، لأنه وضعها في موقع أدنى من موقع الشعوب المستعمِرة، فانشق مضمون الخطاب الاستعماري إلى شقين: ظاهر ادّعى الموضوعية, قام بتحليل الأبنية الثقافية والاقتصادية والدينية لتلك المجتمعات بمناهج وصفية لا تنقصها الدقة العلمية، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمر روّج لفكرة التبعية، ومؤدّاها ألا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات المستعمَرة إلا باستعارة التجربة الغربية في التقدّم، وتبنّي خطّ تطورها التاريخي.

وقد أفضى الأمران إلى نتائج خطيرة لا صلة لها بمقدماتها، فالموضوعية المقترحة أقامت فرضياتها التحليلية على جهاز محكم من المفاهيم، والأسس، والتصورات، المشتقة من دراسات جرى صوغها في الميدان الغربي على مجتمعات لها تقاليد خاصة بها، وأوضاع اجتماعية لها صلة بتجربتها التاريخية، وترحيل تلك المعرفة خارج سياقاتها، والأخذ بها في تحليل بنية المجتمعات المستعمَرة أدى إلى إعادة إنتاج موضوعات التحليل بما يوافق التصور الغربي لها، والتعسف في تطبيقها داخل ميدان ثقافي مختلف كليا عن الميدان الذي أنتج تلك المعرفة.

وليس من الصواب استعارة معرفة جرى تطويرها في سياق ثقافي غربي لتحليل مجتمعات نشأت في حواضن مختلفة، فقد تكون تلك المعرفة مهمة، وجديرة بالتقدير، ولكن كفاءتها تأتي من كونها مشتقة من موضوعها الأصلي، فلا تكون كذلك إذا ما جرى الزجّ بها في تحليل موضوعات أخرى، إذ ليس ثمة معرفة ثقافية كونية عابرة للتقاليد، والعلاقات الاجتماعية، والخلفيات التاريخية، والعقائد الدينية، فلا غرابة أن تنهار كثير من نتائج بحوث الخطاب الاستعماري، ليس بسبب عدم دقتها العلمية، وصرامتها المنهجية، إنما بسبب عدم قدرتها على استيعاب موضوعها استيعابا كاملا، إذ تستقر المجتمعات المستعمَرة على بطانة متنوّعة من الولاءات، كالتحيزات العرقية، والتواطؤات الفئوية، والخلفيات التاريخية الخاصة، والعقائد الدينية الراسخة، لا تستطيع المعرفة الاستعمارية الغوص فيها، ويتعذر عليها تأويل دلالاتها الرمزية، فكثير منها لا يفهم إلا في السياق الثقافي الحاضن لها.

وانتهى الأمر بالمعرفة الاستعمارية إلى الوصول إلى نتائج لم تصدق على موضوعها إنما استجابت للشروط المنهجية الغربية التي حملتها معها، فلا قيمة لمعرفة تعيد إنتاج موضوعاتها طبقا لفرضيات لا صلة لها بتلك الموضوعات، إلى ذلك لم تخل المعرفة الاستعمارية من غايات مستترة جرّفتْ روح المقاومة عند الشعوب المستعمَرة، وأحلّت فيها أخلاقيات الانصياع محل أخلاقيات الرفض، فجرى تمثيل أحوال تلك المجتمعات بصور بدائية غامضة، ليقع فصلها عن هوياتها الأصلية، فتتوهم بأن القطيعة معها ستقودها إلى الحداثة.

ثم جاء مقترح الأخذ بمسار التطور الغربي وسيلة للتقدم، فوضع المعرفة الاستعمارية في مأزق خطير، إذ روّج الخطاب الاستعماري لفكرة تقدّم واحدة في التاريخ الإنساني، هي التجربة الغربية، وجعلها مثالا ينبغي أن يحتذى، فمسار التقدم الغربي هو السبيل الوحيدة للتطور، وفكرة الاستمرارية التاريخية من الإغريق إلى الغرب الحديث - وهي فكرة تحتاج إلى مراجعة نقدية تبدّد مسلماتها- وضعت أمام العالم مقترحا وحيدا للتطور، هو المقترح الغربي، وكل مجتمع لا يأخذ بذلك سوف يظل خارج التاريخ، وهذا هو جوهر الأيدلوجية الإمبراطورية التي تتوهم حلا ناجعا لكل المشكلات في سائر الأزمنة والأمكنة، فيقع تناسي تجارب المجتمعات الأخرى خارج المجال الغربي، بل وصمها بالبدائية والتخلف، فالتقدّم لا يأخذ معناه إلا من الوصف الغربي له، ولهذا تعثرت تجارب التحديث في معظم المجتمعات التي مرت بالتجربة الاستعمارية لأن التحديث المطلوب ينبغي أن يمتثل لشرط الحداثة الغربية، وليس لحداثة متصلة بهوية تلك المجتمعات، وتجاربها التاريخية.

وفي الحالتين، المعرفة الاستعمارية، والمقترح الاستعماري لتطور الشعوب المستعمَرة، فإن ذلك لم يفض إلى وصف دقيق لأحوال تلك المجتمعات، ولم يؤدّ إلى تقدّمها الحقيقي، فلجأ الاستعمار، بشكله العسكري القديم الذي اعتمد مبدأ الاحتلال، أو بأشكاله الاقتصادية والإعلامية والسياسية المعاصرة، إلى ممارسة القوة في إخضاع تلك المجتمعات، وترويضها، سواء بالعنف من خلال الاحتلال والسيطرة المباشرة عليها، أو بالإغواء الاستهلاكي والثقافي، جاعلا من المركز الغربي المثال الأعلى للحريات الفردية، والعلاقات الاجتماعية، والإنتاج الاقتصادي، فتلازمت معرفة غير متصلة بموضوعها مع قوة متعددة الأشكال، من أجل بسط الهيمنة، ولهذا بقيت فكرة التقدم معطلة إلا بما وقع تفسيره من منظور الخطاب الاستعماري باعتباره ضربا من التماثل مع التقدّم الغربي، ولم تفلح المعرفة الاستعمارية في تقديم حلول دقيقة للمشكلات التي تعانيها المجتمعات المستعمرة، أو التي مرت بالتجربة الاستعمارية وأنتجت مؤسسات سياسية تحاكي بها المؤسسات الغربية. والحال هذه، فمع الأخذ في الحسبان أهمية المعرفة الغربية، وأهمية مسار التقدم الغربي، في كونهما متصلين بالتجربة الحضارية الغربية، فهما أقرب إلى لاهوت جديد وقع فرضه بالقوة على المجتمعات المستعمَرة من أجل إخضاعها وترويضها.

على أن المفارقة انبثقت من مكان آخر، كشف عمق الالتباس في بنية الخطاب الاستعماري، فهو لم يسع إلى إيجاد نوع من التماثل بين المجتمعات الإنسانية، إنما ركّز على الاختلافات المطلقة، وكرّس التباينات الكاملة، فرأى في كل اختلاف عن المركز الغربي دونية، فكان عاجزا عن تقدير الاختلافات بما هي عليه، فلم يقبل بها، إنما أراد لها أن تكون وصمة عار ينبغي تذكّرها دائما بوصفها علامة انحطاط، وتخلّف، فعاشت المجتمعات المستعمَرة هاجس القلق والهشاشة والحيرة، وقد اقتلعت من أصولها، ولم تدمج في مسار التطور الغربي، فليس أمامها سوى خيار التبعية، إذ جرى تخريب معرفتها بأحوالها، وقضي على مسار نموها الخاص، وفرضت عليها معرفة أخرى، ووقع الترويج لتحديث غربي في أوساطها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد أخفقت المعرفة الاستعمارية من ملامسة مشاكلها، ولم يقع قبول حقيقي لاندراجها في مسار التطور الغربي، فجرى تكريس اختلافها عن الغرب في كل شيء، ولهذا اندرجت في علاقة التابع، فتضافرت المعرفة والقوة الاستعمارية في حجز تلك المجتمعات ضمن أطر خاصة فلا يسمح لها بالاندماج العالمي، ولا يقبل لها بتطوير هوياتها الأصلية.