رغيد الصلح

عندما وضع مجلس الاستخبارات الوطني الامريكي تقريراً حول مستقبل العالم في العقد الثاني من القرن الحالي، تنبأ بمستقبل مزدهر لأوروبا وللأوروبيين . بين عامي 2010 و2020 . وتوقع التقرير أن يستمر الأوروبيون في حصد ثمرات المزايا التي تتمتع بها مجتمعاتهم . وعدّد التقرير ميزات كثيرة من أهمها سوق اتحادية واسعة، عملة موحدة، طبقة عاملة تملك مهارات عالية، مستوى دخل مرتفع، ديمقراطية مستقرة، علاقات تاريخية وقابلة للتطور مع الجيران من العرب والمسلمين والأفارقة ودول أوروبا الشرقية (الغارديان 25/01/2005) . هذه التوقعات المتفائلة حول مستقبل أوروبا تراجعت خلال السنوات الأخيرة لكي تحل محلها توقعات متشائمة بصورة متزايدة . فكثير من الأوروبيين الذين يفخرون بأنظمتهم المجتمعية المفتوحة وبالتعددية السياسية التي يعزون إليها، وإلى حد بعيد، سر تقدمهم على كل صعيد، باتوا يخشون على مستقبل القارة، بل على مستقبل الحضارة الغربية بصورة عامة . ومبعث هذه المشاعر والتوقعات السوداوية هو خطر الإرهاب الذي يخفت زمناً حتى إذا ظن البعض انه انتهى، يفاجئ الأوروبيين بنمط جديد من التجليات والعمليات المخيفة .

المخاوف تتصاعد بعد كل حادث إرهابي يقع على أرض أوروبية أو يبدأ منها . وتتقاطع هذه المخاوف مع المخاوف النابعة من تزايد الهجرة إلى أوروبا، وتعثر المحاولات الرامية إلى دمج المهاجرين في المجتمعات الأوروبية، ومع اكتشاف وجود خلايا نائمة لبعض المنظمات الإرهابية بين هؤلاء المهاجرين، وتصل هذه المخاوف إلى ذروتها عند الربط بينها وبين ازدياد عدد العرب والمسلمين في أوروبا . ففي أذهان الكثيرين من الأوروبيين أن الإرهاب عربي المنشأ، وان العربي إرهابي حتى يبرهن على العكس، وأن الإرهاب بات هوية ملازمة للعرب .

هذه المخاوف والهواجس خرجت إلى العلن مرة أخرى بعد محاولة تفجير الطائرة الأمريكية التي اقلعت من امستردام إلى ديترويت في الولايات المتحدة . ورغم أن عمر فاروق عبد المطلب الذي حاول تفجير الطائرة نيجيري الأصل، إلا أن هذه الحقيقة لم تعف العرب من تحمل مسؤولية هذه العملية البائسة والشريرة . فالعملية أساساً من تخطيط منظمة القاعدة العربية الأصل والقيادة وان كان مقرها المؤقت في أفغانستان . وعبد المطلب جنّد في القاعدة يوم كان في اليمن . وكان الطرق على هذه التفاصيل الشغل الشاغل للقوى المعادية للعرب في الغرب طوال الأيام المنصرمة . وكما يحدث عقب كل عملية ارهابية، فقد استنفرت هذه القوى كل ما تملكه من طاقات لكي تعبئ الرأي العام الغربي ضد العرب والمسلمين سيراً على طريق تحويل نزعات الآرابوفوبيا والإسلاموفوبيا إلى ركن راسخ من أركان الثقافة السياسية المنتشرة في المجتمعات الاطلسية، وإلى أساس للتعامل مع العرب والمسلمين .

بين هذه القوى تضطلع المنظمات الصهيونية والصديقة لrdquo;إسرائيلrdquo; المنتشرة في الغرب بدور خاص ونشيط . والحوافز التي تدفع هذه المنظمات إلى الاضطلاع بهذا الدور بديهية وليست في حاجة إلى شرح طويل . وكما نجحت هذه المنظمات في تعبئة قسم كبير من الرأي العام الغربي لمصلحة المشروع الصهيوني المتلخص في تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وكما أسهمت في خلق هوة حضارية بين الغرب والعرب، فإنها تسجل اليوم نجاحاً في تأليب قسم من الرأي العام الغربي ضد العرب . وفي سعيها إلى تحقيق هذه الغاية ونشر رسالة الآرابوفوبيا وتعميقها في الغرب، فإنها تصب حملاتها بشكل مكثف على الوجود العربي في أوروبا . وتستخدم المنظمات والقيادات المتعاطفة مع ldquo;إسرائيلrdquo; لغة هي أقرب إلى لغة النازيين . فكما دأب النازيون على تكرار تحذيرات هتلر في كتابه ldquo;كفاحيrdquo; من ldquo;سعي اليهود إلى السيطرة على العالمrdquo; ودعواته إلى ldquo;التطهير العرقيrdquo;، فإن المنظمات المؤيدة لrdquo;إسرائيلrdquo; تكرر باندفاع متزايد ما جاء في كتاب المؤلفة الأمريكية بات يئور: ldquo;يوريبيا: المحور الأورو-عربيrdquo; . ويحذر الكتاب من مؤامرة عربية للاستيلاء على أوروبا، ومن خطر ldquo;تعريبrdquo; أوروبا وتحويلها إلى ldquo;يوريبياrdquo; . وبينما بدت هذه التحذيرات في الماضي وكأنها ضرب من التخريف ومن الدعاية الصهيونية الرخيصة، فإنها باتت، نتيجة الحملات المتنامية ضد العرب، تتردد على ألسنة وفي مقالات وأبحاث كتاب لا ينتمون أساساً لهذه المنظمات وهو أمر لفت نظر مؤرخ بريطاني بارز مثل نيال فيرغوسون الذي لاحظ انتشار مصطلح يوريبيا انتشاراً واسعاً بعد الاعمال الإرهابية التي استهدفت نيويورك ومدريد ولندن .

إذا استمر تصاعد هذه الحملات من دون ردود فاعلة ومؤثرة، فإنها كفيلة بتعريض المهاجرين العرب إلى أخطار فادحة . وينبغي أن نذكر هنا أن الأكثرية من الأوروبيين كانوا يسخرون من الفاشية والنازية عندما بدأ موسوليني وهتلر يبشران بالتطهير العرقي ولم تدرك هذه الأكثرية خطأها الفادح إلى أن أمسك الفاشيون والنازيون بعنق القارة الأوروبية . ولعل العرب أكثر تنبها اليوم لخطر الحملات العنصرية التي يشنها اصدقاء ldquo;إسرائيلrdquo; ضدهم في الغرب، ولكنهم لا يقومون بتحرك كاف من أجل احباط هذه الحملات وكشف حوافزها وأهدافها . وهذا القصور لا ينحصر بالمواقف والسياسات التي تتخذها الحكومات والمؤسسات الرسمية فحسب، وانما نجده أيضاً في مواقف وسياسيات المنظمات الأهلية العربية . وتقدم المذكرة التي تضمنت توصيات المنتدى المدني الأول إلى القمة العربية عام 2004 مثلاً بارزاً على إهمال قضية المهاجرين العرب في الغرب وظاهرة الآرابوفوبيا . ففي حديثها عن قضايا الهجرة تقدمت المذكرة بجملة توصيات إلى الحكومات العربية حول تحسين أوضاع العمالة الوافدة إلى المنطقة العربية ولكن المذكرة لم تتضمن أية توصيات حول المهاجرين العرب إلى دول الغرب، وحول حمايتهم ومن ثم حماية الدول العربية نفسها من الحملات العنصرية التي تشنها المنظمات المتعاطفة مع ldquo;إسرائيلrdquo; ضد العرب .

لعله بالإمكان تلافي هذا الإغفال في سياق التحضير لمؤتمر القمة العربية الذي سينعقد خلال الشهرين القادمين . إن قضية الهجرة العربية ليست قضية فنية وهي لا تتعلق بمصير عدد محدود من البشر، إنها قضية سياسية لأنها تندرج في اطار حماية المنطقة العربية من مشاريع الهيمنة والاستتباع . وهي قضية تتعلق، في أضيق الحدود، بمصائر الملايين من العرب الذين يقطنون ويستوطنون في القارة الأوروبية . من الارجح أن الضمانات والحقوق التي يحصل عليها هؤلاء في الغرب هي أفضل مما يحصلون عليه في بلدهم . المسألة ليست هنا . المسألة انه إذا لم يتوقف التحريض العنصري ضدهم أو تعطل مفاعيله، وإذا لم تتوقف العمليات الإرهابية التي تنفذ باسمهم وباسم العقيدة الدينية أو القومية التي يحملونها، فإنهم معرضون لخسارة تلك الضمانات والحقوق وإلى ما هو أسوأ من هذه الخسارة .