أسعد عبد الرحمن

أقر البرلمان السوداني قانونا كان مثار خلاف منذ فترة لإجراء استفتاء على استقلال الجنوب لينزع بذلك فتيل أزمة سياسية بعد أشهر من النزاع بين شريكي الحكم، بعد أن كانا قد خاضا حربا أهلية لأكثر من عقدين راح ضحيتها نحو مليوني شخص. ومعروف أن قوى غربية قد حاولت تفكيك السودان ومعاقبته بمختلف أنواع الحصار، لكن ها هو السودان ينجح في لملمة جراحه وتلجأ قواه المتناحرة للتفاهم على تقنين الخلافات.

وبينما قرر الأكراد، بعد خلافات عميقة وقتال مرير، التفاهم والتعايش مع خلافاتهم السياسية. وكذلك الحال حين فاجأ فرقاء لبنان الألداء الجميع بتبادل القبلات. تكثر الأسئلة ويطول شريطها لحركتي quot;فتحquot; وquot;حماسquot;. هذا ولن تكون عند كل الحريصين قناعة بإمكانية الإجابات الشافية بخصوص أسباب إصرار الطرفين، عملياً، على التمترس في زاوية من زوايا بقايا الوطن، معتقداً (كلاهما) أن زاويته فحسب هي الوطن. فبعد وقوع الانقسام والانشطار، تمسكت quot;حماسquot; بالسلطة في القطاع معتبرة نفسها الحكومة quot;الشرعيةquot;، فيما شكلت في الضفة حكومة انتقالية اعتبرت نفسها صاحبة quot;الشرعيةquot;. وبين quot;شرعيةquot; هذه وتلك، ضاعت الأولويات الفلسطينية العاجلة: التصالح وتوحيد الوطن الواحد، إعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي على غزة، وفتح معابر القطاع.
في ظل هذا الحال يكاد الوضع الفلسطيني أن يقترب من انفجار ربما يراه البعض مخرجاً من مأزق الحصار السياسي الذي يضيق على حكومة رام الله التي تسعى قوات الاحتلال الإسرائيلي جاهدة لجعلها وكيلا لها في الضفة، ومخرجاً للحكومة المقالة من مأزق الحصار الذي يهدد الجدار الفولاذي (تحت الأرض) بتحويله إلى حصار محكم لا ثغرات فيه تحت الأرض أو فوقها. بل إن بناء الجدار الفولاذي ألهب الحملات الإعلامية المتبادلة بين الحركتين.

ورغم أن الفصيلين الفلسطينيين الكبيرين يريدان لوطنهما أن يتحرر من الاحتلال، لكن السبل تفرقت بهما في اختيار وسائل هذا التحرير. غير أن الأمر لم يتوقف عند حد الاختلاف في الرؤى والتوجهات وتقييم الواقع وطرق التعامل معه، وإنما تحول إلى اقتتال سالت فيه دماء كان من المفترض أن تسيل من أجل الوطن والأرض والشعب. صحيح أن الحركتين تقدمان برنامجين مختلفين، لكن الخلاف بينهما هو في حقيقته تعبير عن عملية إدارة كل منهما لبرنامجه ضمن الظروف المتاحة وما يراه مناسبا. وفي خضم الاتهامات المتبادلة بين سلطتي quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، تذهب دماء الشهداء وآلام ذويهم أدراج الرياح في ظل غياب قيادة فلسطينية موحدة، ذات برنامج سياسي واحد يشكل الحد الأدنى المتفق عليه فلسطينيا.

لقد خسر الشعب الفلسطيني (والقضية) جزءاً من صورتيهما البهيتين أمام العرب والمسلمين والعالم أجمع، لكن الصور تبقى ظرفية وسرعان ما تتغير أمام ما يعقبها من أحداث. ولأسفي، يبدو أن خطر انهيار quot;بنيان الحقوقquot; ليس كافيا لدفع قيادات quot;فتحquot; وquot;حماسquot; إلى وحدتهم الوطنية -ملاذهم الوحيد للخروج من المأزق، وللتصدي لأي مواجهة مع الاحتلال المصمم بمقارفاته اليومية على تثبيت بل تهبيط الوضع الفلسطيني الراهن. وفي مواجهة الخطر المحدق، يبدو المشهد الفلسطيني عبثيا. وعليه، مطلوب من القوى الوحدوية إدراك واجبها في إخراج الحالة الفلسطينية الراهنة من النفق الانقسامي الذي يمثل صفحة سوداء من تاريخ الشعب الفلسطيني، والعمل على استعادة الوحدة الوطنية الشاملة والاتفاق على خطة وطنية متكاملة لمواجهة المخاطر والتحديات التي يواجهها شعبنا الفلسطيني، فبالوحدة فقط يمكن الرد على جرائم الاحتلال التي يجب أن تكون عامل وحدة.

نعلم أن هناك قوى إقليمية ودولية، ولمصالح خاصة بها، لا تريد للحوار الفلسطيني أن ينجح. لكن الطامة الكبرى تكمن في تلك النتوءات الفلسطينية الداخلية الشاذة التي لا تريد للحوار أن ينجح وتسعى لترسيخ الانقسام الفلسطيني لدوافع مصلحية وأيديولوجية وفصائلية ضيقة. فوفقا لتقارير ومقالات متكاثرة، ثمة في أوساط السلطة أفراد (لكنهم مؤثرون) يصرون في ممارساتهم العملية ضد كوادر وأعضاء quot;حماسquot; على رفض الحوار مع الآخر إلا وفق رؤياهم، لكنهم -في المقابل- يصرون على استمرار المفاوضات التي يقال لنا إنها عبثية أو أقله متعثرة مع إسرائيل، بل تراهم متحمسين لها. كذلك، تؤكد المصادر ذاتها أن في quot;حماسquot; قيادات (لكنها مؤثرة) لها مصالحها المستجدة أو تعتقد أن الحركة وحدها تمثل الشرعية الفلسطينية ومن حقها أن تقيم هدنة مع الاحتلال لكنها، في الوقت نفسه، لا تقيم quot;هدنةquot; مع الفتحاويين إذ هي تستمر في اعتقال عدد منهم في القطاع.

لذا، على القوى الوحدوية في الحركتين، وبالذات مع تزايد الحديث عن اجتماع قمة يجمع عباس مع مشعل، استلام زمام أمور نزاعهما القائم -موضوعيا- على quot;وهمquot; حقيقي. فأي حكم، وأي سلطة هذه التي يتنازعان عليها؟! ولن يفيد الحركتين التعنت وتمسك كل منهما بتحليلاته ومواقفه، بل هما بأشد الحاجة إلى إعادة النظر والتأمل في مواقفهما وسياساتهما قبل quot;خراب مالطاquot;، فالحرب الإعلامية وتبادل الاتهامات العبثية والاعتقالات، بل وأعمال القتل، تبعث على اليأس، وتبعد الجماهير عن الطرفين، وتحبط همم الشعب. وتحويل الصراع في فلسطين إلى صراع داخلي هو أحد الأهداف الأساسية لإسرائيل منذ وقت طويل، وقد تأكد للمرة المليون أن الاحتلال لا يعطي شيئاً، لذا فعلى الفرقاء الفلسطينيين العودة إلى حوار العقل، والتمسك بالمصلحة العامة، ونبذ التخالف. فالشعب الفلسطيني بحاجة إلى الوحدة والتعبئة ونبذ عناصر ضعفه والتمسك بقضيته أمام العالم. وها نحن نعود ونؤكد، أن طريق quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، الوحيد والسالك، هو الوحدة الوطنية، أو أقله تقنين الخلافات وإدارتها بأسلوب عقلاني. والآن، يبقى السؤال المركزي: هل السودانيون، وكذلك الأكراد واللبنانيون وغيرهم، أكثر وعيا وحرصا على أوطانهم من الفلسطينيين، أم أن quot;وهم الشرعيةquot; وquot;السلطةquot; سيستمر حتى نخسر كل شيء؟!