ادموند غريب

هناك مثل أمريكي يشبِّه من يسئ لنفسه بنفسه بمن يجدع أنفه لأن وجهه لا يعجبه, وقد ينطبق هذا على التصرفات الإسرائيلية تجاه تركيا خاصة بعد الطريقة المهينة والمنافية للأعراف الدبلوماسية التي تعامل بها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون مع السفير التركي في تل أبيب يوم الثلاثاء.

نقلت وسائل إعلام دولية تصريحات وتحليلات لخبراء إسرائيليين قالوا فيها بأن الموقف الإسرائيلي تجاه السفير التركي لم يكن موجهاً ضد تركيا بل ضد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي يقول الإسرائيليون إنه يحاول تعزيز دور ومكانة تركيا على حساب العلاقة مع إسرائيل ومن خلال إدلائه بتصريحات ينتقد فيها إسرائيل.

لكن هذا الكلام لم يقنع المسؤولين الأتراك ومنهم الرئيس عبد الله غول الذي رفض محاولة أيالون الاعتذار وقال إن حكومته منحت إسرائيل فرصة حتى منتصف الليل لتقديم اعتذار رسمي وإلا فسيتم استدعاء السفير للعودة إلى تركيا بغرض التشاور ومن ثم يتم تقييم الوضع. وقد وجدت حكومة إسرائيل نفسها مضطرة للاعتذار أمام هذا الموقف الحاسم للحكومة التركية التي أغضبتها الإهانة الواضحة لسفيرها في إسرائيل فقامت بما ينبغي لدولة تحترم نفسها أن تفعله.

وبرزت تفسيرات أخرى لموقف نائب وزير الخارجية الإسرائيلي المنافي للأعراف الدبلوماسية ومنها أن وزير الخارجية ليبرمان منزعج من الدور التركي الإقليمي وخاصة محاولات تركيا لعب دور الوسيط بين إسرائيل وسورية, بينما رأى آخرون أنها العنجهية المسيطرة على هذه القيادة التي تعتقد أن بإمكانها أن تفعل ما تشاء تقريباً من دون مواجهة أية عواقب. وثمة آخرون اعتقدوا أن الحادثة هدفت لتخريب الزيارة المقررة لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك إلى تركيا.

ورغم الاعتذار الرسمي وتهدئة الأمور بين الجانبين إلا أن التوتر يشوب الآن العلاقة التي قامت بين البلدين ولعدة عقود منذ أن قامت تركيا العلمانية القومية التي انضمت إلى حلف الأطلسي وكان لها أكبر جيش في الحلف. وكانت تركيا مدفوعة بمخاوفها التاريخية من جارتها السوفييتية وبرغبتها لأن تصبح جزءاً من العالم الغربي.

خلال هذه المرحلة كانت العلاقة مع إسرائيل علاقة استراتيجية قوية وفي الوقت ذاته كان التوتر يسود علاقاتها مع مصر عبد الناصر وسورية وأحياناً العراق. ومع نشوب حرب الخليج الثانية التي شاركت فيها تركيا لإخراج العراق من الكويت, فإن الرأي العام التركي لم يكن مرتاحاً حيال هذه الحرب, فبدأت تبرز مخاوف القوى العلمانية والجيش من السياسات الغربية في العراق عامة وكردستان العراق على وجه الخصوص, حيث أقلق الغطاء الأمني الغربي لحكومة كردستان العراق القيادات والرأي العام في تركيا, إذ بدأت تبرز مخاوف من احتمال قيام كيان كردي في شمال العراق يهدد القادة الأتراك كما يهدد ليس فقط وحدة أراضي العراق بل وحدة أراضي وسيادة تركيا نفسها التي لديها عدد كبير من الأكراد يفوق عدد أكراد العراق بأربعة إلى خمسة أضعاف.

وبدأت تركيا مفاوضات دولية حول مستقبل العراق مع سورية وإيران التي شعرت بدورها بالقلق من السياسات الغربية في كردستان العراق. ومع تصاعد حمى حرب الخليج الثالثة عبر القادة الأتراك العسكريين والمدنيين وأغلبية الرأي العام عن معارضتهم لهذه الحرب وعندما لمحت الحكومة التركية إلى أنها قد تسمح بفتح جبهة ثالثة, إلا أنها واجهت معارضة قوية من داخل البرلمان التركي ومن أنصارها كذلك.

وحدث بعض التوتر في العلاقات التركية الأمريكية عندما ألقي القبض على مجموعة من الجنود الأتراك في كردستان العراق ووضعت أكياس على رؤوسهم مما أثار غضب العسكر والشعب في تركيا. ولعبت هذه الحادثة دوراً في أحداث فيلم quot;وادي الذئابquot; الذي ينتقد بحدة السياسات الإسرائيلية والأمريكية.

لقد أقلق الدعم الغربي للحركة الكردية في العراق والدور الذي تلعبه إسرائيل هناك الكثير من الأتراك, خاصة الرأي العام الذي يؤيد أيضاً موقف بعض الأحزاب التركمانية المعارضة للمطالب الكردية بضم كركوك إلى كردستان العراق حيث تعتبرها تلك الأحزاب مدينة تركمانية أصلاً لا كردية. وقد تصاعدت التوترات بين الجانبين الإسرائيلي والتركي بعد حرب غزة التي أظهرت الحكومة والشعب التركيان معارضة لها. وقد أحدثت الخلفية القومية والدينية لحزب التنمية والعدالة التركي الذي جاء إلى السلطة في عام 2002م تغييرات في السياسة التركية حيث بدأت أنقرة بإقامة علاقات على أسس عقائدية واستراتيجية لعب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داودأوغلو دوراً أساسياً في تطويرها.

ويقول أصدقاء إسرائيل في واشنطن إن تلك السياسات أدت إلى بروز نزعة قومية معادية للغرب ومشبعة بأفكار إسلامية, وأن القادة الجدد يرون بأن مصالح تركيا تكمن في إقامة علاقات جيدة ليس فقط مع الغرب وإسرائيل, بل مع العالمين العربي والإسلامي اللذين يمثلان الأحواض الثقافية التي يجب أن تتعامل معها تركيا. ويتحدث داودأوغلو عن أهمية العمق الاستراتيجي الإقليمي لتركيا ويطالب بحل الخلافات مع الجيران ورفض سياسات المحاور. وقد انعكست هذه الرؤية سلباً على علاقة تركيا بإسرائيل, خاصة أن السياسات الإسرائيلية أغضبت الرأي العام التركي حيث أفادت دول مثل سورية وروسيا من هذا الوضع فتحركت لتعزيز علاقاتها مع تركيا.

وعلى أية حال, لا ينبغي تضخيم التوتر الحالي في علاقات تركيا بإسرائيل, فهي علاقات استراتيجية متشابكة من الصعب أن تنفصم عراها بسهولة, إلا أن سياسات القادة الإسرائيليين قد لا تشجع على عودة الدفء لتلك العلاقات في المستقبل المنظور.

*أستاذ الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأمريكية بواشنطن